النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
غربت شمس الأربعاء الماضي ولم أكن قد اخترت بعد موضوع المقال الجديد، فالأحداث تتسارع والجسد الوطني مصاب باشتراكات لا علاج لها، حتى إن الإلتهابات بلغت ذورتها إضراباً واعتكافاً واستنكافاً ودولاراً صاروخياً، وكهرباء آيلةً إلى قهر ورياء أي (قهر ياء) وغيبوبة ضالة أحياناً وواعية معظم الاحيان، وموائدَ مستوعبات نفايات تتناقص أنواعها باطّراد، فقلت لنفسي إنني أوجزت رأيي في الموضوع القضائي فلا حاجة لمزيد، كما انني لم أطّلع على خلفيات ومسوّغات اللجوء إلى قاضٍ رديف في انفجار مرفأ بيروت، فلن أهرف بما لم أعرف، فانتويت أن اخصص مقالة اليوم للفكاهة، ترويحاً عني وعنكم، فلم تطاوعني الذاكرة ولا المزاج لاستخراج نوادر وأحداث كانت في حينها مدعاة ابتسام وقهقهة.
فحاولت أن أجاري جاري العزيز هنري زغيب في حماسته لنقل التراث إلى الأجيال، فعصتني الذاكرة، وغاض مني برنامج "قول على قول" الذي كانت تبثه الـ بي بي سي للأديب والشاعر المرحوم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وكذلك برنامج "لغتنا الجملية" للشاعر المصري فاروق شوشة من إذاعة القاهرة وأعياني البحث عن برنامج "المتفوقون" الذي كان يعدّه بحرفية عالية مروان نجار ويقدّمه الصديق الراحل رمزي والسيدة جيزيل خوري وافتقدت تدفّق العميدين الدكتور هاشم الأيوبي والدكتور محمد أبو علي بصحيح اللغة وقويم اللسان، بل شدّني الحنين إلى شفيق جدايل الذي كنا نضبط ألفاظنا على صحة نطقه، فما كان مني إلا أن أنهر محاولتي تجنباً لغرق ساقيتي في بحر العزيز هنري.
لكنّ الليل أتاني بالفرج، فبعد أن ختمت أم البنين المسلسلات التركية، سنحت لي فرصة مشاهدة قناة "ماسبيرو زمان" وهي متخصصة بإعادة بث البرامج القديمة، فكان دخولي الافتراضي إلى صالون المرحوم أسامة الباز (مستشار رئيس الجمهورية المصرية سابقاً) وأحد أهم العقول المصرية، حيث أضفت نفسي إلى ضيوفه من غير استئذان وكان منهم كامل الزهيري رئيس تحرير مجلة روز اليوسف حينذاك والدكتور مراد وهبي، وكان موضوع الحديث عن التقدم فقال أحدهم:
"من سوء العواقب أن ينحصر تعاطي الإنسان مع الآلات على حساب تعامله مع الناس". وقال آخر: "لا يكون تقدّم من خلال العلماء فقط"، لأنّ التقدّم فلسفة قبل أن يكون تقنية وأضاف: "إن بيل غيتس خريج قسم الفلسفة من جامعة هارفرد، وإن أرسطو لم يكن ليقدر على ابتكار علم المنطق لو لم يكن فيلسوفاً عظيماً"، وهنا تدخّل آخر ليلفت إلى أن التقدّم ليس محاكاة، بل إبداع؛ كما أن الإبداع ليس تفوقاً على سواك، بل ابتكار لحلول واكتشافات تتصدى لمشاكلك، والإبداع رؤية، والرؤية تخيل وسباحة في فضاء المجهول والمعجزات. استغرقني ذلك اللقاء الغني، ثم أخذني إلى انكباب الأبناء والحفدة على آلاتهم الصغيرة حيث أخشى عليهم من البكم لقلة استعمال الألسنة.
وعدت إلى أرسطو الذي يُعَرِّف الفن بأنه إدخال السرور إلى قلوب البشر، وتذكّرت الفنان رضوان شهال الذي قال لي إن الشعر هو فن أسطرة الواقع، أي الارتقاء بالواقع الملموس إلى هيبة الأسطورة. نمت على هذا، لأستيقظ في السادسة صباحاً على أن "ميّاس" قامت بأسطرة الواقع، وارتفعت بالحرف والأرجوان من غبار رفوف الذاكرة إلى أسطورة إحراز الإبهار قبل الجائزة، في منافسة غير عادلة مع فرق لها من يرعاها وينفق عليها، ولكنها بعبقرية التخيّل والتصوير عند نديم شرفان، ومعجزات الأداء من الفرقة التي تحوّلت أجسادها إلى أرواح ترفّ بأجنحة من بياض ثلج الارز على أنغام موسيقى شرقية، أثارت أرباع الأصوات فيها شجن الملايين الذين راحوا يصبون أصواتهم لمصلحة تلك التحفة اللبنانية التي جعلت الكلام مقصّراً عن فصاحة الرقص، فما تلوَّى خصر إلا بحساب ولا تحرّك بنان إلا بخطة، ولا أتحدّت الأبدان في بدن أو تفرعت منه إلا برسم دقيق من ريشة العبقرية الهائلة التي قالت للشخوص المرسومة انطلقي من اللوحة الجامدة، وكوني لوحة حية مبهرة، وضخي في وطنك مصل القيامة والانفكاك من مشهدية الراقصين الذين إذا ترهلت أردافهم، ترافدت ذريّتهم في استمرارية مقيته ورتبية على إيقاع "الوحدة ونص".
لقد أدهشت "ميّاس" العالم برقصها الراقي ومازال ساستنا على رقصهم الخليع.
الفنون وإدخال السرور الى قلوب البشر
النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
غربت شمس الأربعاء الماضي ولم أكن قد اخترت بعد موضوع المقال الجديد، فالأحداث تتسارع والجسد الوطني مصاب باشتراكات لا علاج لها، حتى إن الإلتهابات بلغت ذورتها إضراباً واعتكافاً واستنكافاً ودولاراً صاروخياً، وكهرباء آيلةً إلى قهر ورياء أي (قهر ياء) وغيبوبة ضالة أحياناً وواعية معظم الاحيان، وموائدَ مستوعبات نفايات تتناقص أنواعها باطّراد، فقلت لنفسي إنني أوجزت رأيي في الموضوع القضائي فلا حاجة لمزيد، كما انني لم أطّلع على خلفيات ومسوّغات اللجوء إلى قاضٍ رديف في انفجار مرفأ بيروت، فلن أهرف بما لم أعرف، فانتويت أن اخصص مقالة اليوم للفكاهة، ترويحاً عني وعنكم، فلم تطاوعني الذاكرة ولا المزاج لاستخراج نوادر وأحداث كانت في حينها مدعاة ابتسام وقهقهة.
فحاولت أن أجاري جاري العزيز هنري زغيب في حماسته لنقل التراث إلى الأجيال، فعصتني الذاكرة، وغاض مني برنامج "قول على قول" الذي كانت تبثه الـ بي بي سي للأديب والشاعر المرحوم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وكذلك برنامج "لغتنا الجملية" للشاعر المصري فاروق شوشة من إذاعة القاهرة وأعياني البحث عن برنامج "المتفوقون" الذي كان يعدّه بحرفية عالية مروان نجار ويقدّمه الصديق الراحل رمزي والسيدة جيزيل خوري وافتقدت تدفّق العميدين الدكتور هاشم الأيوبي والدكتور محمد أبو علي بصحيح اللغة وقويم اللسان، بل شدّني الحنين إلى شفيق جدايل الذي كنا نضبط ألفاظنا على صحة نطقه، فما كان مني إلا أن أنهر محاولتي تجنباً لغرق ساقيتي في بحر العزيز هنري.
لكنّ الليل أتاني بالفرج، فبعد أن ختمت أم البنين المسلسلات التركية، سنحت لي فرصة مشاهدة قناة "ماسبيرو زمان" وهي متخصصة بإعادة بث البرامج القديمة، فكان دخولي الافتراضي إلى صالون المرحوم أسامة الباز (مستشار رئيس الجمهورية المصرية سابقاً) وأحد أهم العقول المصرية، حيث أضفت نفسي إلى ضيوفه من غير استئذان وكان منهم كامل الزهيري رئيس تحرير مجلة روز اليوسف حينذاك والدكتور مراد وهبي، وكان موضوع الحديث عن التقدم فقال أحدهم:
"من سوء العواقب أن ينحصر تعاطي الإنسان مع الآلات على حساب تعامله مع الناس". وقال آخر: "لا يكون تقدّم من خلال العلماء فقط"، لأنّ التقدّم فلسفة قبل أن يكون تقنية وأضاف: "إن بيل غيتس خريج قسم الفلسفة من جامعة هارفرد، وإن أرسطو لم يكن ليقدر على ابتكار علم المنطق لو لم يكن فيلسوفاً عظيماً"، وهنا تدخّل آخر ليلفت إلى أن التقدّم ليس محاكاة، بل إبداع؛ كما أن الإبداع ليس تفوقاً على سواك، بل ابتكار لحلول واكتشافات تتصدى لمشاكلك، والإبداع رؤية، والرؤية تخيل وسباحة في فضاء المجهول والمعجزات. استغرقني ذلك اللقاء الغني، ثم أخذني إلى انكباب الأبناء والحفدة على آلاتهم الصغيرة حيث أخشى عليهم من البكم لقلة استعمال الألسنة.
وعدت إلى أرسطو الذي يُعَرِّف الفن بأنه إدخال السرور إلى قلوب البشر، وتذكّرت الفنان رضوان شهال الذي قال لي إن الشعر هو فن أسطرة الواقع، أي الارتقاء بالواقع الملموس إلى هيبة الأسطورة. نمت على هذا، لأستيقظ في السادسة صباحاً على أن "ميّاس" قامت بأسطرة الواقع، وارتفعت بالحرف والأرجوان من غبار رفوف الذاكرة إلى أسطورة إحراز الإبهار قبل الجائزة، في منافسة غير عادلة مع فرق لها من يرعاها وينفق عليها، ولكنها بعبقرية التخيّل والتصوير عند نديم شرفان، ومعجزات الأداء من الفرقة التي تحوّلت أجسادها إلى أرواح ترفّ بأجنحة من بياض ثلج الارز على أنغام موسيقى شرقية، أثارت أرباع الأصوات فيها شجن الملايين الذين راحوا يصبون أصواتهم لمصلحة تلك التحفة اللبنانية التي جعلت الكلام مقصّراً عن فصاحة الرقص، فما تلوَّى خصر إلا بحساب ولا تحرّك بنان إلا بخطة، ولا أتحدّت الأبدان في بدن أو تفرعت منه إلا برسم دقيق من ريشة العبقرية الهائلة التي قالت للشخوص المرسومة انطلقي من اللوحة الجامدة، وكوني لوحة حية مبهرة، وضخي في وطنك مصل القيامة والانفكاك من مشهدية الراقصين الذين إذا ترهلت أردافهم، ترافدت ذريّتهم في استمرارية مقيته ورتبية على إيقاع "الوحدة ونص".
لقد أدهشت "ميّاس" العالم برقصها الراقي ومازال ساستنا على رقصهم الخليع.