الشاعر هنري زغيب
السبت الماضي (23 تموز) في ندوة عن التراث اللبناني ضمن مهرجانات "صيف غلبون"، تحدَّثَ المرجع الدستوري والحقوقي البروفسور أَنطوان مسرَّة أَنَّ تاريخ لبنان لا يكتُبه المؤَرخون بل المواطنون لدى إِنشاء متاحف محلية بلدية في كل لبنان. وختامًا روى كيف حفيدتُه الصبيَّةُ جاءَتْهُ يومًا حزينةً على غضب، يائسةً على ضياع، كُفْرًا بهذا البلد ومَن يُديرون شؤُونه.
لم يُجِب الدكتور مسرَّة. أَزاح حفيدتَه الغالية عن كتفه، دَلَفَ إِلى مكتبته، وعاد حاملًا بضعةَ مجلَّدات، وضَعَها أَمام الحفيدة الشابة. سأَلتْه: "ما هذه يا جدُّو"؟ فراح يفتحها واحدًا واحدًا ويَشرح: هذه مجلَّدات مهرجان بعلبك. هاكِ مَن وقف بين الهياكل الدهرية، وغنَّى، وعزَف، من كبار المبدعين في لبنان والعالم. وهذه محاضرات "الندوة اللبنانية"، تأَمَّلي هؤُلاءِ الكبار من لبنان والعالم، مؤَلِّفين، مفكِّرين، أُدباء، شُعَراء، اختصاصيين في جميع الحقوق المعرفية. وهذان المجلدان الكبيران: "أَربعةُ قرونٍ من ثقافة الحرية في لبنان بين القرنَين السادس عشر والعشرين"، مع مقدمة للكبير غسَّان تويني. كانت الصبيَّةُ تُصغي بعينيها، تَسمع بعقْلها، وتقرأُ بدَهشتها، حتى إِذا انتهى استعراض المجلَّدات، الْتَفَتَتْ بعينَين أُخْرَيَيْن، وعقْلٍ مُغاير، ودهشةٍ زرقاءَ صافيةٍ، وقالت بنكهة الفرح: "شُكْرًا جدو، عرَّفْتَني بلبنان". وتلتْ تلك الجلسةَ جلساتٌ كان خلالها "جدُّو" يكشفُ للحفيدة عن كنوزٍ ساطعةٍ من تراث لبنان.
لَفَتَتْني حكايةُ البروفسور أَنطوان مسرَّة، وحفزَتْني على كتابة هذه المقالة اليوم، لأَتساءل: ماذا لو تولَّى كلُّ متَنَوِّرٍ شرحَ حقيقةِ لبنان لأَبنائِه وأَحفادِه، فيعرفون عظمة وطنهم الذي يعيشون فيه ولا يعرفونه؟ وكيف يُحبُّونه إِن لم يعرفوه على حقيقته؟ كيف يؤْمنون به وهُم منْكوبونَ يوميًّا بوجوهِ سياسيين دونكيشوتيين كذَّابين على الشاشات يَجلدون المواطنين بتصاريحَ جوفاء ووعودٍ جوفاء ووُجوهٍ جوفاء؟
هل هذا لبنان؟ هل هذا وطنُ الثقافة والحضارة والفكر والإِبداع؟ هل وجوهُ السياسيين القميئةُ القبيحةُ هي التي تُمثِّل وجهَ لبنان؟
حبَّذا لو كلُّ والدٍ أَو جَدٍّ، مثل الدكتور أَنطوان مسَرَّة، يَشرح لأَحفاده أَنَّ هذا الذي يَرَونه ويَشكُون منه ويريدون هجْره غيرَ آسفين، هو بلدُ السياسيين ومزارعِهم، وليس لبنانَ الوطن الذي إِنسانُه العبقريُّ يُذهل ديارَ العالم بذكائه الجماعي.
لبنانُ التراث هو النبعُ الذي يَغتذي منه الشرق، ويَعجَب له الغرب، ويمتدُّ إِشعاعُهُ بعيدًا بعيدًا في العالم، ويراه العالم لا بمساحته الضئيلة، ولا ببضعة ملايين سكانه، بل بإِشعاعه الرائع الساطع البارع. هذا هو لبنانُ الحضارة الذي يشوِّهُهُ جهْل سياسييه حقيقتَه وأُمِّيَّتُهم الثقافية في قراءَة تاريخ لبنان وإِشعاع لبنان وإِنسان لبنان.
متى عرفَ أَبناؤُنا وأَحفادُنا هذه العظمة الاستثنائية في حقيقة وطنهم، سيُحبُّون وطنَهم أَكثر، ويكرهُون قادتَه السياسيين أَكثر، ويزدادُ غضبُهم أَكثر وحقْدُهم أَكثر وقرفُهم أَكثر حيال عصابةٍ تُحْكم قبْضتها على دولة لبنان كي تَخنُق فيها الروح ولا تُبْقي إِلَّا جسدًا مشلولًا طوع إِجرامها. وعندئذٍ يفرِّق الجيل الجديد بين لبنان وطن الخالدين، ولبنان أَهل السلطة البائدين.
بلى: لو أَخذَ كلُّ والدٍ أَو جدٍّ يَشرح للأَبناء والأَحفاد حقيقةَ وطنهم الحضاري وتراثِه الغني وإِشعاعِه العالمي، لَيُهَيِّئُ تلقائيًّا جيلًا جديدًا يتولَّى الحُكْم، واعيًا عظَمَةَ وطنه، متمسِّكًا به، مُدافعًا عنه، وطاردًا من جنَّته فُلُول فرِّيسيين سبَّبوا بإِجرامهم سقوطَ دولة لبنان
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا