بقلم البير نجيم، ع.م. في الامن العام اللبناني، حقوقي، باحث سياسي وامني.
وسط ما يجري على الصعيد الدولي في اطار ازمة اللجؤ او النزوح السوري، وتصاعد المواقف المحلية المختلفة ازاء هذا الملف، لا بد من احاطة تلحظ المجريات الاساسية المعلنة حوله منذ 10 ايار الماضي وحتى منتصف شهر تموز الجاري، وذلك لتسليط الضؤ ما امكن على نواحيه الاجرائية والقانونية واستطرادا الابعاد السياسية.
في بروكسل وبدعوة من الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة انعقد المؤتمر السادس حول قضايا اللاجئين السوريين تحت عنوان "دعم مستقبل سوريا والمنطقة"، وهو اول حدث دولي يخص سوريا في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب الروسية – الاوكرانية.
ولا يمكن بالواقع قراءة سياسات الدول تجاه مستقبل سوريا وقضايا اللاجئين، بمعزل عن تداعيات الحرب الدائرة في اوكرانيا سيما وان الاطراف المشاركة بالمؤتمر والمعنية به هي نفسها الاطراف التي تخوض بشكل او بآخر الصراع المسلح هناك، وهذا ما يجعل نتائج المؤتمر محط اختلاف في التفسير او خلاف في الرؤيا.
ففي حين قدمت دول الاتحاد الاوروبي ومعها الامم المتحدة عبر المفوضية السامية تصورها للاولويات والاحتياجات الملحة للاستجابة الانسانية، قدمت روسيا وسوريا اولوياتهما المتمثلة بـ "اعادة بناء البنى التحتية في سوريا وبالتعافي الاقتصادي، من اجل المتابعة بمحاربة الارهاب".
هذا بالتحديد ما عكسته تصريحات كل من منسق العلاقات الروسية في سوريا ووزير الخارجية السوري من حيث التشديد على ان "دعوة اللاجئين الى وطنهم قضية تعني سوريا ولا تحتاج الا الى ان يكف المجتمع الدولي عن اعتراضاته ومؤامراته وعدم تسييس القضايا الانسانية"، وهذا تعبير روسي متواصل في مقاربته للازمة السورية.
بالعودة الى مؤتمر بروكسل نفسه، فقد وصل تقدير الاحتياجات المباشرة الى نحو 10,5 مليار دولار للسنة المقبلة، على ان يستفيد من هذا المبلغ نحو 14,6 مليون لاجئ او نازح داخل سوريا، حيث اصبح 90 بالمئة من الشعب السوري على خط الفقر، او خارج سوريا ايضا، كما ستستفيد منه الفئات الاكثر ضعفا من المجتمعات المضيفة، ومنها بالطبع لبنان الذي يعيش محنته الخاصة السياسية والاقتصادية.
في الاطار عينه وفي نهاية شهر حزيران وبعد الاحتفال بيوم اللاجئ، عقدت المنسقية الاممية للشؤون الانسانية المقيمة في لبنان الدكتورة نجاة رشدي مؤتمرا صحفيا في جنيف، اعلنت فيه عن الاحتياجات الانسانية في لبنان موضحة ان 2,2 مليون لبناني باتوا على خط الفقر، يضاف اليهم 86 الف مهاجر طوعي، وكذلك 200 الف لاجئ فلسطيني، فضلا عن مليون ونصف المليون من اللاجئين – النازحين السوريين، كما اكدت على ان صندوق لبنان الانساني يحتاج الى 16 مليون دولار لدعم الفئات الاكثر تضررا من اللبنانيين بصفتهم مجتمعا مضيفا.
لا تحتاج هذه الارقام بالفعل، وبمعزل عما اذا كانت دقيقة بالكامل او نهائية، الى جهد كبير لفهم حجم ما يضفيه هذا الملف من واقع مأساوي على الوضع اللبناني، في الوقت الذي يعاني لبنان اصلا من اكبر ازمة اقتصادية في تاريخه ومن تخبط اجتماعي ومعيشي مصاحب لتخبط سياسي مرشح لان يدوم لفترة طويلة، علما ان تداعيات الازمة السورية ومن ضمنها ازمة النزوح شكلت منذ العام 2011 احد الاسباب الرئيسية للانهيار الذي وصلنا اليه، من دون اسقاط الاسباب المتعلقة بالهدر والفساد وتراكم نتائج السياسات غير المسؤولة.
لما كانت المفوضية السامية وكذلك الاتحاد الاوروبي ومعظم الدول الغربية والعربية المانحة تعتمد في مقاربتها لمشكلة اللاجئين على:
1 - اتفاقية جنيف لعام 1951
2 - بروتوكول الامم المتحدة لعام 1967
3 - اعلان نيويورك لعام 2016
4 - الميثاق العالمي بشأن اللاجئين لعام 2018
ولما كانت مصطلحات "الدمج"، و"التوطين"، و"اعادة التوطين"، و"الحماية"، وما شابه من مضامين هذه الاتفاقيات، تشكل لغة وسياسة المراجع الدولية في مقاربة ازمات اللجؤ والنزوح نتيجة الحروب، وفي مقدمها اليوم ازمة العصر، اي الازمة السورية.
ولما كانت التجربة اللبنانية خلال العقود الماضية قاسية ومأساوية في ظل انعكاسات القضية الفلسطينية وما عاناه لبنان جراء اللجؤ الفلسطيني، الى ان انفجر من الداخل...
ولما كان لبنان يحرص على اعتماد كلمة "نازح" وليس "لاجئ" بالنسبة للسوريين الذين نزحوا اليه منذ بداية الحرب السورية، بفعل الحساسية التي تشكلها له كلمة "لاجئ" انطلاقا مما ذكرنا اعلاه، وباعتبار انه لم يوقع على اتفاقية الاممم المتحدة التي اقرت في جنيف في العام 1951 والتي عرفت اللاجئ على النحو التالي: " تنطبق لفظة لاجئ على كل شخص يوجد، وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه او دينه او جنسيته او انتمائه الى فئة اجتماعية معينة او آرائه السياسية، خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، او لا يريد بسبب ذلك الخوف، ان يستظل بحماية ذلك البلد ..."، مع الاشارة الى ان لبنان، بجميع الاحوال ورغم ذلك، قد تجاوب مع اجراءات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لدى نشؤ الازمة السورية...
لهذا كله، فان تلك المصطلحات تضاعف بالحقيقة من وطأة ازمة النازحين السوريين الى لبنان، وتشكل بذاتها ازمة لبنانية اضافية، نظرا لخصوصية البلد وتوازناته الداخلية والايديولوجيات التي تطبع سياسات فئاته واحزابه. واذا كانت المفوضية السامية تواجه نفس المشكلات السياسية مع بلدان اخرى، فان الانعكاس يختلف في لبنان من حيث الاستنفار الداخلي المتضارب، في موازاة ما يتم الاعلان عنه من خطة لاعادة النازحين الى سوريا بالتوافق بين وزارة المهجرين اللبنانية والسلطات السورية، وبمعدل شهري يصل الى 15 الف حالة، مع الطلب من المفوضية ايجاد مكان ثالث لمن يعارضون سياسة النظام السوري، واعادة توطينهم في امكنة اخرى، ما يعني ان الامر، وان سلك المسار المأمول، فسيستغرق سنوات فيما يستمر لبنان تحت وطأته، وفيما يستمر النزف اللبناني باتجاه الخارج والاغتراب طاقات وشبابا وعائلات.
تبدو المعايير المتفق عليها دوليا، قاعدة لاي موقف ايجابي او سلبي من عودة النازحين الى وطنهم، خاصة ان من اركانها: التأكد من وقف العنف الى حدوده الدنيا، والاتفاق مع الدولة المضيفة والدولة السورية عبر المفوضية السامية للتحقق من توفير الضمانات الامنية ومن قدرة النازح على اتخاذ قراره طوعا من دون اكراه، والحصول مسبقا على معطيات واضحة وصحيحة حول منح العفو المطلوب، والتمكن من الحصول على الحقوق الاساسية والاملاك الخاصة، على ان تشرف المفوضية على كافة مراحل اعادة التوطين واعادة الاندماج عبر مراقبين دوليين قادرين على الوصول الى النازح من دون عوائق.
لا شك في ان هذه المعايير الآنفة الذكر، هي من صلب القوانين الاممية، لكنها وبنظر الكثير من المراقبين مبالغ بها في التطبيق وغير واقعية في كثير من الحالات، لا بل انها لا تلامس حقيقة الحالات المختلفة احيانا كثيرة، فتشكل غالبا ذرائع تخدم الاتجاهات السياسية المتضاربة اقليميا ودوليا.
ولا شك في المقبال ان هذه المعايير تشكل بالنسبة للسلطات السورية احراجا كبيرا، رغم انها نفسها التي استخدمت، اقله حتى الآن، ضد سياسة تركيا لاعادة توطين مليون لاجئ سوري على طول الحدود السورية الشمالية في املاك ليست لهم وبما يؤدي الى تشكيل حزام ديمغرافي مصطنع بين الاكراد والترك بواسطة العرب.
ان الاولويات الروسية – السورية لا تتطابق مع اولويات الجهات الدولية المانحة، تماما كما هي الاولويات والاحتياجات التركية، وعليه فقد تحولت قضية اللجؤ السوري الى ساحة تجاذب وتسويات، كتلك التسوية التي اجازت بعد صراع في مجلس الامن دخول مواد الاغاثة عبر المعابر الاربعة التابعة للنظام وللمعارضة، حيث لم يستطع مجلس الامن الا ابرام صفقة بين مختلف الاطراف لتوزيع الحصص الغذائية...
بالمحصلة: حتى الان والى مرحلة قد تطول، لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بان نهاية الازمة السورية قريبة، ومن دون حل جذري لهذه الازمة لا حل جذريا لازمة النازحين، لذا سنشهد على الارجح المزيد والمزيد من الانعكاسات السلبية مع الكثير من المسكنات.