منير يونس - نداء الوطن
برز الشهر الماضي اسم الدكتور صالح النصولي مرشحاً لرئاسة الحكومة. استند مرشحوه ومريدوه إلى ان للرجل خبرة تمتد على مدى 40 عاماً في مواقع عليا في صندوق النقد الدولي. وهو مؤلف عدد من الكتب في الاقتصاد والمال والتجارة والنقد. توجهت «نداء الوطن» بعدد من الأسئلة الى الدكتور نصولي الذي أكد بداية أن لبنان يحتاج إلى البدء في التركيز على مصالحه الخاصة بدلاً من البحث في الخارج عن التوجيه والمساعدة. ويوضح أنه على مدى اكثر من عامين ونصف وحكومتين متعاقبتين لم تُتخذ اي تدابير تصحيحية، في الوقت الذي اتبعت فيه سياسات ادت الى نتائج مغايرة مما ادى الى تضخيم حجم الازمة، مؤكداً أنه حان الوقت لانقاذ الاقتصاد اللبناني. وفي ما يلي نص الحوار:
ما هو الإطار الاقتصادي العام الذي توصي بوضعه وتنفيذه للخروج من هذه الأزمة؟
لبنان يواجه أزمات متعددة وليست أزمة واحدة فقط وكلها مترابطة، أزمة سياسية مع انقسامات داخلية خطيرة أدت إلى الشلل في السياسات، أزمة حوكمة اتسمت بتفشي الفساد والتدخل في النظام القضائي، أزمة ثقة داخلية ومع الدول المانحة والمؤسسات الدولية، أزمة شفافية تتسم بغموض عمليات الحكومة وحسابات الموازنة والنظام المصرفي والمؤسسات العامة، أزمة مالية انعكست في انهيار العملة والتخلف عن سداد الديون والخسائر الهائلة في النقد الاجنبي وانعدام السيولة في القطاع المصرفي وتعدد اسعار الصرف مع ضوابط لرأس المال غير منظمة، وأزمة اقتصادية تنعكس في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وارتفاع البطالة. اضف الى ذلك أزمة البنية التحتية بدليل نقص الكهرباء وندرة إمدادات المياه، وعدم صيانة الطرق، والعقبات التي تعترض عمليات الموانئ، وأزمة إنسانية انعكست في الارتفاع الحاد في معدلات الفقر وملايين اللبنانيين الذين يعانون من الحرمان في التعليم والرعاية الصحية والمرافق العامة.
إن مهمة الخروج من هذه الأزمات هائلة. لكن يجب أن تشمل مجموعة أولى من الإصلاحات كما يلي:
1. إتمام انجاز تدقيق حسابات مصرف لبنان والبنوك التجارية على وجه السرعة لتوفير أساس لإطار عمل متوسط المدى.
2. استحداث قوانين قوية للشفافية ومكافحة الفساد، مع آليات إنفاذ قوية، بالإضافة إلى قوانين تضمن استقلالية القضاء لبدء استعادة الثقة.
3. توحيد وتعويم سعر الصرف مع عدم وجود ضوابط على تحويلات رأس المال.
4. إجراء إصلاح للعملة يتضمن إدخال ليرة لبنانية جديدة، على غرار إصلاح العملة الألمانية الناجح لعام 1948 الذي تم تنفيذه بعد التضخم المفرط في الحرب العالمية الثانية.
5. إعادة هيكلة الدين العام الداخلي والخارجي.
6. توفير مصرف لبنان السيولة بالليرة اللبنانية للبنوك لمواجهة السحوبات من الودائع بالليرة اللبنانية والدولار بسعر الصرف في السوق المحرر.
7. إعادة هيكلة الجهاز المصرفي دون المساس بالمودعين.
8. تعزيز الانظمة والرقابة الاحترازية على مستوى مصرف لبنان والمصارف التجارية.
9. مراجعة وتعزيز عمليات المؤسسات العامة وتحديد ما سيتم تخصيصه منها.
10. اعتماد موازنات لمدة 3 سنوات لضمان القدرة على تحمل الديون، بما في ذلك إصلاح الخدمة المدنية (شاملة تعديل الرواتب والاجور)، وتحديد أولويات الإنفاق لدعم البنية التحتية والخدمات الاجتماعية، ومراجعة وتحديث النظام الضريبي مع استخدام سعر الصرف الحر الموحد، وتبسيط الإجراءات لمنع التهرب الضريبي والفساد.
11. البدء في إصلاح المرافق العامة، بما في ذلك قطاع الكهرباء، وقطاع المياه، وأنظمة الموانئ، مع مراعاة خصخصة وتنظيم هذه المرافق.
12. تطبيق نظام شامل للحماية الاجتماعية.
ولكن كشرط مسبق، يحتاج لبنان إلى تشكيل حكومة كفاءات مستقلة تركز على الإصلاحات، ولا يشلها الاقتتال السياسي الداخلي، من أجل كسب الثقة داخلياً ودولياً. يتعين على الأحزاب السياسية المختلفة أن تدرك أنها جميعها في نفس القارب وأنها سوف تغرق معاً إذا غرق القارب. لهذا حذر وزير الخارجية الفرنسي السابق من غرق لبنان مثل التايتنيك وعلى متنه جميع اللبنانيين.
ما رأيك بالاتفاق المبدئي بين الحكومة اللبنانية وبعثة صندوق النقد الدولي؟
من المهم وضع الاتفاق المبدئي على مستوى موظفي الصندوق في سياقه الصحيح. يواجه لبنان واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في التاريخ. لقد انخفض الدخل الحقيقي بشكل كبير لدرجة أن الأمم المتحدة قدرت أن 80% من السكان اصبحوا الآن تحت خط الفقر، وتضرر النشاط الاقتصادي، و تفشت البطالة، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، وساد التضخم المفرط، واصبح عمل النظام المصرفي مشلولاً تقريبا مما أدى فعلياً إلى تجميد الجزء الأكبر من الودائع، وتصاعدت هجرة الادمغة. اليوم لا توجد كهرباء تقريباً ولا إمدادات مياه، و يواجه المواطن ندرة في الأدوية الأساسية والامدادات الغذائية بما فيها الخبز، ونقصاً في الوقود. كما ان المؤسسات العامة شبه متوقفة عن العمل بسبب الاضراب العام لموظفي القطاع العام احتجاجاً على تلاشى اجورهم الحقيقية، فهذا ليس وضعاً طبيعياً.
لكي يعمل أي اقتصاد، يجب إعادة بناء الثقة. بعد عقود من السياسات الاقتصادية والمالية غير المسؤولة والفساد السائد في معظم مرافق الدولة، لا يتمتع لبنان بثقة مواطنيه ولا بثقة المجتمع الدولي. لذلك يحتاج بشكل عاجل إلى إعادة بناء الثقة من خلال الشروع في إصلاحات حوكمة مهمة، بالإضافة إلى إصلاحات اقتصادية ومالية. ويتضح انعدام الثقة من خلال القائمة الطويلة للإجراءات المسبقة المفصلة التي اقترحها صندوق النقد الدولي في الاتفاق المبدئي قبل المضي قدماً في تقديم أي دعم مالي.
ليس هناك شك في أن الاتفاق المبدئي على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي يتضمن أهدافاً جديرة بالثناء والعديد من الإصلاحات المطلوبة. ومع ذلك، لدي تحفظات حول عدة جوانب من البرنامج الحكومي المطروح.
أولاً، بدون مراجعة كاملة وتدقيق جدي لحسابات البنك المركزي والبنوك التجارية وكذلك المتأخرات على الحكومة التي تكبدتها وزارة المالية، لا يتوفر اساس متين لبناء إطار اقتصادي كلي متوسط الأجل يمكن من خلاله تقييم تأثيرالإصلاحات المقترحة وتحديد الفجوة المالية الخارجية الشاملة التي تواجه الاقتصاد اللبناني.
ثانيًا، لا يعتبر الشطب التعسفي للودائع والقيود المفروضة على السحب منها المقترحة في خطة الحكومة حلاً للمشكلة، ولكنه في الواقع سيأتي بنتائج عكسية، و سيدمرهذا الاجراء كل ما تبقى من ثقة في القطاع المصرفي، وسيُقوض لسنوات قادمة قدرة القطاع على لعب دوره الوسيط الأساسي في دعم النشاط الاقتصادي. فمَن في العالم سيجرؤ على ايداع قرش واحد في المصارف اللبنانيية بعد هذا الإجراء التعسفي؟ وعلاوة على ذلك، سيؤدي فقدان الودائع إلى انخفاض الطلب وإعاقة الاستثمار، مما يؤدي إلى مزيد من الكساد في النشاط الاقتصادي.
ثالثًا، ان إدخال ضوابط على رؤوس الاموال الخارجية في هذه المرحلة المتأخرة من الأزمة سيؤدي إلى زيادة تقويض الثقة وسيعزز نشاط السوق السوداء لتحويل رؤوس الأموال الى الخارج بينما سيعيق دخولها الى لبنان، وسيخلق تشوهات تؤثر سلباً على الانتعاش الاقتصادي والمالي للبلد.
رابعًا، من غير الواضح ما هي سياسة سعر الصرف المقترحة حالياً. كان لبنان من أوائل الدول في العالم التي تبنت سعر صرف عائم عند الاستقلال والذي ساهم بتعزيز اقتصاده حتى عام 1997.عندما تم تثبيت سعر الصرف عند سعر مبالغ في قيمته وهو 1500 ليرة لبنانية، أثر ذلك سلباً على تنافسية لبنان، وترافق مع سياسة أسعار فائدة عالية لجذب رؤوس الاموال الاجنبية لدعم سعر الصرف المبالغ فيه. وبالتالي فقد نتج عن هذه السياسة ضرر للاقتصاد وخاصة في قطاعي الزراعة والصناعة. ان اي برنامج إصلاحي جدي يتطلب فوراً توحيداً لاسعار الصرف المتعددة والعودة الى سعر صرف حر يحدد في سوق العملات الاجنبية.
تقودني هذه التحفظات إلى القول إن هناك حاجة لإعادة النظر في البرنامج الحكومي المطروح للتأكد من أن أي اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي يعكس تطلعات الشعب اللبناني ويضع الاقتصاد والقطاع المالي على أسس متينة.
هل هو اجراء صحيح ما طرح عن شطب 60 مليار دولار من خسائر البنك المركزي؟
كما قلت، بدون تدقيق كامل في البنك المركزي والبنوك التجارية، من السابق لأوانه مناقشة الخسائر الفعلية المتضمنة بأي طريقة موثوقة. تشير البيانات المتاحة إلى أن الخسائر كانت كبيرة. وتشير التقديرات إلى أنه من بين 104 مليارات دولار أميركي ودائع بالعملات الأجنبية في البنوك التجارية، تم إيداع 82 مليار دولار منها في البنك المركزي. وتشير التقديرات الاخيرة إلى أن البنك المركزي لديه فقط 11.3 مليار دولار من العملات الأجنبية، مما يخلق فجوة قدرها 71.7 مليار دولار مستحقة للبنوك التجارية. علاوة على ذلك، لدى قطاع المصارف سندات اليورو التي تمثل ديناً للحكومة بالعملة الأجنبية، لكن قيمتها التجارية الفعلية الحالية تمثل جزءاً قليلاً من قيمتها الاسمية.
ماذا تقترح بخصوص إعادة الودائع لأصحابها؟
لا يوجد أي مبرر على الإطلاق لشطب الودائع المقترح في خطة الحكومة. كانت الخسائر المتراكمة نتيجة سياسات من قبل الحكومة التي عانت من عجز كبيرمتتال في الميزانية العامة، و من قبل البنك المركزي الذي دعم سعر صرف ثابت مبالغ فيه مع سياسة سعر فائدة مرتفعة لجذب الودائع بالعملات الأجنبية، ومن تقاعس لجنة الرقابة على المصارف التجارية التي فشلت في ضمان الاجراءات الاحترازية، كما ان المصارف ذاتها لم تتبع سياسة احترازية مناسبة لحماية المودعين من خلال تركيز ودائعهم بالعملات الأجنبية في البنك المركزي مقابل عائدات عالية للفوائد. في ضوء ذلك، أن يتحمل المودعون معظم الخسائر هو اقتراح غير منطقي على الاطلاق.
في رأيي، إن أفضل نهج للتوصل الى حل هو تشكيل حكومة كفاءات مستقلة غير سياسية تعلن بشفافية عن برنامج إصلاح هادف وتبدأ في تنفيذ الإجراءات المطلوبة للبدء في استعادة الثقة، وطمأنة المودعين والجمهور الى أنه لن يكون هناك شطب قسري للودائع ولا ضوابط على تحويل رؤوس الاموال والسحب من الودائع.
في هذا السياق، سيكون من الضروري تعويم وتوحيد سعر الصرف وتزويد المصارف بكل السيولة التي تحتاجها بالليرة اللبنانية لتلبية الطلب على ودائعها وبسعر موحد يحدده السوق الحر، فلن يبالي المودعون بما إذا كانوا سيحصلون على الليرة اللبنانية أو الدولار حيث يمكن استبدال الليرة اللبنانية في هذا السوق بالدولار والعكس صحيح.
قد يكون هناك ارتفاع مبدئي في سعر الصرف مع اندفاع البعض لتحويل الليرة اللبنانية إلى دولارات، لكن سعر الصرف سيعود إلى مستوى أكثر استدامة بمجرد انحسار الاندفاع الأولي. وسيعتمد مدى الاندفاع بشكل حاسم على مصداقية الحكومة والثقة التي أوجدتها. وكلما زادت هذه المصداقية والثقة كلما كان الاندفاع قصير الأمد.
وتجدر الاشارة الى ان هذا التحرير لا يعني الدولرة للودائع او تحويل الودائع الدولارية الى الليرة، بل هو وسيلة لضخ السيولة في النظام المصرفي في سياق ليرة لبنانية قابلة للتحويل بسعر السوق الحر.
هناك من يطالب بانشاء صندوق سيادي لأصول الدولة التي تدر عائدات لكي يذهب جزء منها لإعادة الودائع، فما رأيك في هذا الاقتراح؟
لا شك في أن وضع المؤسسات العامة وأصول الدولة الأخرى بحاجة إلى مراجعة وتقييم في سياق برنامج إصلاح شامل. ومع ذلك، لا ينبغي أن تكون الودائع رهينة لمثل هذا الصندوق السيادي، بالنظر إلى أن العديد من مؤسسات الدولة تتكبد خسائر حاليا وأن ميزانية الحكومة تعاني من عجز مزمن. في الواقع، في هذه المرحلة، فإن تقديم الوعود على مدى سنوات متعددة بناءً على صندوق سيادي وهمي ليس بالأمر الجدير بالثقة.
يجب معالجة مسألة الودائع بجدية بالطريقة التي أشرت إليها. وأريد التأكيد بهذا الخصوص على أن نجاح حماية الودائع سيعتمد بشكل حاسم على مصداقية الحكومة، وشفافية برنامج الإصلاح الذي تنفذه، والتواصل الفعال مع الجمهور لشرح الإصلاحات وفوائدها.
في ما يتعلق بالمؤسسات العامة، هناك حاجة ملحة لاتخاذ تدابيرلإعادة هيكلتها وتحديد المؤسسات التي ستبقى ضمن القطاع العام وتلك التي ينبغي خصخصتها. يتمتع البنك الدولي بخبرة واسعة في هذا المجال مما يمكنه من المساعدة في هذا الصدد. ومرة أخرى، من الضروري تنفيذ هذه السياسة بالشفافية الشاملة والكاملة.
مراجعة مصرفية شاملة
كيف يرى الدكتور النصولي مستقبل القطاع المصرفي اللبناني: من سيخضع للتصفية والإفلاس؟ يقول: «هذا سيعتمد على السياسات المعتمدة. إذا تم تطبيق شطب للودائع وضوابط على تحويل رؤوس الأموال، فلا أرى مستقبلًا واعداً للقطاع المصرفي. يعتمد القطاع المصرفي الفعال بشكل حاسم على ثقة عُملائه. لقد تآكلت هذه الثقة بالفعل إلى حد كبير ويجب إعادة تأسيسها».
في هذا الصدد، يؤكد أنه «سيكون من الضروري إجراء مراجعة شاملة لدور وهيكلية البنك المركزي وهيئة الرقابة على المصارف للتأكد من أنهما يعملان بشفافية وفعالية. بالإضافة إلى ذلك، سيتعين إعادة هيكلة المصارف التجارية للتأكد من أن عملياتها تخضع لسياسات وممارسات احترازية سليمة، وبشفافية كاملة، وأن تتم رسملتها بالكامل. ستكون نتائج التدقيق حاسمة في تحديد المصارف القابلة للإستمرار مما يوفر اساساً لإعادة الهيكلة المطلوبة».
نسأل الدكتور صالح النصولي عما سيحدث إذا فشلت الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي؟ فيقول ما يلي: «لبنان لا يسعه أن يفشل والفشل في تنفيذ الإصلاحات المتوخاة لا يؤدى إلا إلى تفاقم الأزمة وتقويض الثقة في الحكومة بشكل أكبر. إن الثمن الذي سيتكبده الشعب اللبناني سيكون باهظاً من حيث المزيد من المعاناة الإنسانية».
ويضيف: «يمكن للبنان الاستفادة بشكل كبير من الخبرة والتمويل الذي يمكن أن يوفره صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ويقع على عاتق الحكومة اللبنانية مسؤولية التفاوض على برنامج يتماشى مع تطلعات ومصالح الشعب اللبناني. وأعلم، من واقع خبرتي، أن صندوق النقد يولي أهمية كبيرة لملكية البلاد للإصلاحات التي تساعد على ضمان نجاح البرامج».