اللغز الطرابلسي
اللغز الطرابلسي

خاص - Thursday, April 30, 2020 1:59:00 PM

يحيى مولود

في كل مرة تتأزّم الأوضاع الاجتماعية، تقف الدولة عاجزة أمام "لغز" طرابلس. تغيب هي عمداً بالأساس، حيث لم يحصل في التاريخ اللبناني أن مدينة بحجم العاصمة الثانية "تطرد" من الوطن مئات المرات وهي تصر أن تكون جزءاً منه.

يصعب على المرء فهم هذه المعضلة!

منذ أن بدأت بالنزول المتكرر إلى بيروت، ومع دخولي في مجال النشاط الاجتماعي والسياسي، صرت معرَضاً إلى عدد من الأسئلة والاستفسارات التي أكّدت لي أن اللغز الطرابلسي حقيقي: "أكيد أنت من طرابلس؟"، "ما بتشبه أهل طرابلس"، "طالع ع طرابلس بهالوضع؟!"، "شو عم بصير عندكن بطرابلس؟!"، "حابين نروح ع طرابلس بس والله بتخوف"...

إذاً المشكلة هي في العمق. هي مشكلة احتواء الدولة لكافة لرعاياها، شمولية سيادتها على كافة أراضيها. فهذا الوطن الذي أرادته لنا سلطات الاحتلال الفرنسي لأسباب لن ندخل بها الآن، لم ينتج عنه هوية جامعة لكافة مواطنيه، وبقي رهينة أهواء وزعماء المناطق الذين يغذّون بعضهم بعضاً ويتبادلون الأدوار في "حروب إلغاء" مستمرة. وطرابلس، التي أيضاً لطالما سيطرت عليها عائلات وزعامات تقليدية، لم تخرج عن هذه المعادلة لكنها أضافت إليها عنصر "حرارة الانتماء" الذي ما زال يؤثر سلباً في النتيجة الأخيرة.

مما لا شك فيه أن السياسيين الطرابلسيين سعوا منذ القدم إلى عزل المدينة عن باقي الوطن ليسيطروا عليها بأرخص التكاليف، لكن الدولة أيضاً كرّست هذه النظرية بالفعل وطورتها على قياس الموقع السني الأول، وخصوصاً بعد الطائف، فصار ممثّل "السنية السياسية" يدخلها كالفاتحين من دون أي مكسب فعلي لأهلها.

طرابلس التي أطلق عليها لقب "قلعة المسلمين" ما زالت حتى الساعة من أجمل مدن "العيش الواحد" (حبذا لو نخرج من هذه التصنيفات يوماً) وهي، برغم غياب الدولة عن دورها في بسط سلطة القانون وتأمين الحماية الاجتماعية، ما زالت، مثلها مثل باقي المدن، تهتف للجيش والدولة وتنتخب في دلالة على إصرارها لأن تكون تابعة للدولة! أما تطييف المدينة وتعليب صورتها بإطار الرجعية والتعصب كان نهجاً متفقاً عليه بين "زعمائها" وديوك المزابل الطائفية الأخرى ! فانشغلت المدينة بصراعاتها المذهبية وفي "حروب الآخرين على أرضنا"، لتبهر الإعلام وتعطيه مادة دسمة لتبرير خبثه. وما نسمعه مؤخراً من بعض السياسيين والصحافيين والمحللين عن أثرياء طرابلس ومطالبتهم بالتدخل لإطعام الفقراء يكرّس هذه المشكلة. فالمسألة عند هذا اليمين السياسي هي مسألة تأبيد سيطرة سياسية لا تتعامل مع الطرابلسيين إلا كرعايا وأقنان وزلم عند هذا الديك أو ذاك من الاقطاعيين الجدد.

كلا، لا نريد مشاريعهم ولا أموالهم، بل نريد محاكمتهم على ما اقترفت أيديهم! فحقوق الناس ليس منة من سياسيي الفساد والفتنة، والفقر المسيطر على معظم أحياء المدينة إنما هو صنيعتهم وعليهم تحمل مسؤولية سياساتهم! فلا موائد الإفطار باتت تنفع، ولا كراتين الإعاشة، ولا تدشين الجوامع، ولا غيرها من المشاريع الاستثمارية الخاصة وبعضها ممول من صناديق الدين والتسوّل، هي الحل!

حضرات "الأغنياء" من زعامات المدينة، المشكلة ليست في ثرواتكم (التي يجب أن ينظر حتماً بمصادرها وحجم استغلال النفوذ التي تراكمت من خلاله)، بل المشكلة في عقولكم الفوقية والمتخلفة. أنتم الذين دجّنتم الناخبين وجعلتم التمثيل النيابي حكراً لكم ولمن حولكم بفتات أموالكم المنهوبة، فبئساً لكم ولنصحكم ولتعاطفكم الالكتروني المزيف!

اللغز الطرابلسي بحاجة لنوع جديد من العمل السياسي، وهو النوع القائم على احترام الناس، وتحويلهم من أزلام إلى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. اللغز الطرابلسي بحاجة لسياسة إنقاذية تنتشل شباب وشابات المدينة من القرف والذل اليومي. يكفي قياس الأمتار القليلة بين أكبر قصر في المدينة وبين "حي التنك"، لمعرفة مدى تجذّر هذا اللغز الطرابلسي في وجدان أهل هذه المدينة المنكوبة التي ملّت البكاء والنحيب على خيباتها المتتالية.

طرابلس العاصمة الثانية للبنان، تبعد المسافة يومياً بينها وبين هذا الوطن الغريب، ولتقليص هذه المسافة هناك مدخل واحد فقط: ترسيخ مفهوم المواطنة في أدبيات وثقافة وتنشئة كل أبناء وبنات هذه المدنية، لتحريرهم من قيودهم ومن كل من تسيّد عليهم.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني