جوني منيّر - الجمهورية
ما ان ينجح لبنان في فكفكة عقد استحقاق واجتيازه، حتى يدخل في تعقيدات أكبر لاستحقاق جديد. فبعد الجدل الصاخب الذي ساد المرحلة الماضية حول حصول الانتخابات النيابية او عدمها في مواعيدها المحددة، هَلّ الاستحقاق الجديد والمتعلق بتشكيل حكومة جديدة.
لكنّ الأهم الصراع هو العنيف الدائر حول الاستحقاق الرئاسي المقبل. قد يكون للنظام السياسي ثغراته لا بل «علّاته» التي تفتح «شهية» الساعين للعرقلة، لكن لا بد من الاقرار بأنّ المسؤولية الاولى تقع على الذهنية التي تعمل وفقها الطبقة السياسية اللبنانية. فهي تبحث عن الثغرات الدستورية لا بل توجدها، لتعطيل الاستحقاق كسلاح للمبارزة بوجه بعضها البعض، من دون الالتفات الى الخسائر الاقتصادية الهائلة التي ترتّبها على الشعب اللبناني، فحساباتها تنحصر في مصالحها الضيقة فقط لا غير. لكن ثمة ما هو أخطر اليوم، فالشرق الاوسط كله دخل في مرحلة انتقالية للوصول الى خارطة نفوذ سياسية جديدة والحسابات هنا تصبح اكثر تعقيداً ونسبة المخاطر تصبح اكبر، وحسابات الوقت تصبح سلاحاً مشروعاً للاستعمال. والمشكلة انّ لبنان بلد صغير واقتصاده مدمّر، وعامل الوقت يلعب ضد مصلحته لا بل انه أضحى يهدد وجوده.
ولا شك بأنّ الرحلة التي ينوي الرئيس الاميركي القيام بها الى الشرق الاوسط هي اكثر من مهمة. فهي ستشكّل محطة اساسية في ملف اعادة رسم توازنات المنطقة وخارطتها السياسية حيث سيلتقي زعماء مصر والاردن والعراق والامارات اضافة الى السعودية واسرائيل.
لكنّ تعقيدات المنطقة دفعت البيت الابيض لإرجاء الزيارة بضعة اسابيع بعدما كانت مقررة نهاية الشهر الحالي. ويجب الاقرار أنّ بايدن يدخل الى المنطقة وفق حسابات غير ملائمة الى حد ما.
فالحكومة الاسرائيلية التي تتكئ على ائتلاف هَش واغلبية ضيقة جدا، تعيش الهزة تلو الهزة ما يهدّد بقاءها. وانفراطها سيعني انتخابات مبكرة جديدة ستُعيد نتنياهو الى السلطة، وهذا آخر ما يريده الرئيس الاميركي.
لذلك وعلى سبيل المثال، تتجنّب الادارة الاميركية توجيه اي انتقاد علني او رسمي الى الحكومة الاسرائيلية خشية المساهمة في إضعافها، وبالتالي سقوطها.
وسيزور بايدن السعودية وهو يسعى لمَد يد العون لاقتصاده، بعدما كانت الصورة معكوسة قبل غزو روسيا لأوكرانيا، حين كان بايدن يرفض لقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان او حتى التواصل معه. فالعقوبات على روسيا رفعت اسعار النفط الى مستويات قياسية، ما زاد من المشاكل الاقتصادية للولايات المتحدة التي تتحضّر لانتخاباتها النصفية بعد اشهر معدودة. وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد اعتبر انّ العقوبات على بلاده سترتَدّ على الغرب بسبب عدم إمكانية التعويض عن الكميات الضخمة للغاز الروسي، وهو ما سيتسبّب في ارتفاع التضخم وتدهور الاوضاع الاقتصادية، وكان بوتين مُحقاً في تقديره. والأهم انّ ولي العهد السعودي شعر بأنّ الوقت قد حان لينفّذ ثأره، من خلال رفضه رفع مستوى إنتاج النفط. ولذلك استبقَ بايدن زيارته بإرسال مستشارة لشؤون الشرق الاوسط بريت ماكغورك ومعه مبعوثه لشؤون الطاقة أموس هوكشتاين. والمهمة تُقرأ من عنوانها: زيادة مستوى انتاج النفط السعودي مقابل بعض الضمانات التي لطالما طالبَ بها السعوديون. إلّا أن هناك شعوراً بأن التجاوب السعودي مع مهمة الوفد الاميركي كان فاتراً، ولذلك ثمة كلام في الاروقة الديبلوماسية المعنية بأن رحلة بايدن جاءت متأخرة وهو ما سيعني بأنّ مردودها سيكون متواضعاً.
من هنا القلق الذي يجب ان يشعر به اللبنانيون، فالاتفاق النووي مع ايران جرى وضعه جانباً حتى اشعار آخر، والذي لا يبدو انه قريب. والتشابكات السعودية اضافة الى ضعف الحكومة الاسرائيلية كلها ملفات ضاغطة على الادارة الاميركية التي تعيش بدورها حال صراع داخلي حاد وقاسٍ مع الحزب الجمهوري المعارض. وكل ذلك في مرحلة اعادة ترتيب اوراق المنطقة، وهو ما يعني انّ احتمالات تجاوز التفاصيل تصبح اكبر ولا حاجة للاشارة بأنّ الملف اللبناني يعتبر تفصيلاً امام المصالح الكبرى المطروحة.
لذلك تَواصَل الفاتيكان، القَلِق على لبنان أكثر من «لُبنانييه»، مع الادارة الاميركية حاملاً اليها ثلاث نقاط اساسية ألحّ على طرحها.
النقطة الاولى تتعلق بعدم وضع الملف اللبناني جانباً وإبقائه على الطاولة، بسبب التزاحم في الملفات المعقدة والمصالح الكبيرة، وألحّ الفاتيكان في طرحه خصوصا بعدما سمع بأنّ هنالك في الادارة الاميركية من يفضّل تأجيل الملف اللبناني الى ما بعد الانتخابات النصفية.
لكنّ جواب الفاتيكان كان بأنّ لبنان، ووفق أوضاعه المزرية، قد يكون غير قادر على الصمود الى ذلك الوقت خصوصاً انّ اي مستجدات قد تطرأ على توازنات مجلسي النواب والشيوخ قد تدفع بالادارة الديموقراطية الى الانشغال اكثر في ملفاتها الداخلية.
لذلك، يكثّف الفاتيكان من موفديه الى لبنان، والذي كان آخرهم الامين العام لسينودس الاساقفة الكاردينال ماريو غريك.
ومن المحتمل ان يقوم وزير خارجية الفاتيكان بول ريتشارد غالاغير بزيارة ثانية الى لبنان خلال الاشهر المقبلة، لمواكبة المبادرة الفرنسية التي ينوي الرئيس الفرنسي طرحها قريباً.
اما النقطة الثانية فتتعلق بتذكير الفاتيكان البيت الابيض بالالتزام الذي كان الرئيس الاميركي قد أعلنه خلال زيارته للبابا فرنسيس بألّا يدفع لبنان ثمن الصراعات او التسويات في الشرق الاوسط.
والنقطة الثالثة بأنّ من حق بلدان الشرق الاوسط ان تنعم بمرحلة استقرار طويلة بعد حوالى القرن من الحروب والصراعات الدموية العنيفة. وبالتالي، طالما ان المرحلة هي مرحلة تسويات فليحصل ذلك ولكن وفق أسس ثابتة تسمح بمرحلة طويلة من الاستقرار، عوض حصول تسويات جزئية تؤدي الى مرحلة قصيرة من الاستقرار قبل ان تعود الاضطرابات الدموية العنيفة من جديد، وهذا سيفيد لبنان بكل تأكيد.
وفي التواصل الفاتيكاني مع واشنطن، تأييد للمبادرة التي سيطرحها الرئيس الفرنسي حيال لبنان. لكن الامور قد لا تكون بهذه السهولة. فالخلية المخصصة لمتابعة الملف اللبناني في وزارة الخارجية ما تزال قلقة حيال الواقع الاقتصادي والحياتي اللبناني المأزوم، وسط تشاؤم حيال ولادة حكومة جديدة تتمتع بالمواصفات المطلوبة. وهو ما يعني انّ ثمة قلقاً حول حصول انتخابات رئاسية في مواعيدها الدستورية، ما يرفع من احتمالات الفراغ الرئاسي. لكنّ الاوساط الديبلوماسية نفسها ترجّح انه في حال الذهاب الى الفراغ الرئاسي فإنه لن يكون طويلاً هذه المرة لأن الظروف ستختلف عن السابق. فصحيح انّ التعقيدات التي تظهر تؤدي الى تعديلٍ في البرنامج الموضوع، لكنّ لبنان سيدخل في مرحلة جديدة تبدأ مع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وكل الاطراف باتت على بَيّنة من ذلك.