كارين عبدالنور - نداء الوطن
ما شهدته نهاية الأسبوع لم يكن حدثاً عابراً أو عادياً أو مجرّد احتفال ديني. قُل إنه حدث استثنائي بتوقيته وأبعاده. فحفل تطويب الأبوين ليونار عويس ملكي وتوما صالح مساء يوم السبت شكّل بارقة أمل أشرقت من الباحة الخارجية لكنيسة دير الصليب في جل الديب لتضيء شمعة رجاء وسط السواد الحالك الذي يحيط بنا من كل جانب. وجاء قدّاس الشكر يوم الأحد في كنيسة مار أنطونيوس البادواني في بعبدات بمثابة ختام لعرس سماوي نحن بأمسّ الحاجة إليه. فمن جل الديب وبعبدات رسالة من هناك - من فوق - إلى لبنان من أقصاه إلى أقصاه: طالما أن نبع القداسة في هذه الأرض لم ينضب، فـ»أبواب الجحيم لن تقوى عليها».
قدّاس السبت... حضور ديني ورسمي وشعبي حاشد
القدّاس الاحتفالي الذي أقيم في الباحة الخارجية لكنيسة دير الصليب حضره رئيس الجمهورية ممثّلاً بوزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصار، رئيس مجلس النواب نبيه بري ممثّلاً بالنائب هاغوب بقرادونيان، ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ممثّلاً بوزير الشباب والرياضة جورج كلاس. وكان أيضاً من بين الحضور اللواء الركن المتقاعد جورج شريم ممثلاً وزير الدفاع موريس سليم وقائد الجيش العماد جوزيف عون، الرائد رنا عصفور ممثّلة المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وشخصيات حزبية وسياسية ورسمية أخرى إضافة إلى جموع غفيرة من المؤمنين. أما الذبيحة الإلهية، فقد احتفل بها الكاردينال مارتشيلو سيميرارو، ممثّلاً البابا فرنسيس ورئيس مجمع دعاوى القدّيسين الذي حضر خصيصاً من الفاتيكان للمناسبة، السفير البابوي المطران جيوزيب سبيتيري، كما رئيس عام الرهبنة الكبوشية الأب عبدالله النفيلي، النائب الرسولي لطائفة اللاتين في لبنان المطران سيزار أسايان، الأمين العام لمجمع الأساقفة الكاردينال ماريو غريك، والرئيس العام الكبوشي الأب روبيرتو جنوين ونائبه الأب أنطوان حداد. كما حضر البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ترافقه الأم ماري مخلوف رئيسة جمعية راهبات الصليب، وبطريرك السريان الكاثوليك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان وبطريرك الأرمن الكاثوليك رافائيل بيدروس. هذا وبلغ عدد المطارنة الحاضرين الـ14 من بينهم مطران أبرشية أنطلياس المارونية طوني أبي نجم، ناهيك عن ممثلي كافة رؤساء الطوائف المسيحية في لبنان، ولفيف من الكهنة والرهبان والراهبات. الحضور الشعبي الذي قارب 5000 شخص جاؤوا من مختلف المناطق اللبنانية وقد تكفّلت باصات بنقل الراغبين من مدخل دير الصليب إلى مكان الاحتفال، في وقت قامت جوقة سيدة اللويزة بقيادة الأب خليل رحمة بخدمة الرتبة الإلهية. مع الإشارة إلى أن جميع الكلمات والقراءات والتراتيل التي تُليت كان سبق وجرى تنسيقها مباشرة مع الفاتيكان.
الرسالة الرسولية ورفع الستارة عن الصورة
الرسالة الرسولية المتضمنة مرسوم إعلان التطويب باللغة الفرنسية تلاها المطران أسايان وممّا جاء فيها: «نطلب من الآن وصاعداً أن يُدعى كل من خادمَي الله الكريمين ليونار عويس ملكي وتوما صالح، الشهيدين، الكاهنين والرسولين البطلين لإنجيل يسوع حتى سفك الدماء، بالطوباويين، على أن يُحتفل بعيدهما في العاشر من حزيران من كل عام».
بعدها تُليت نبذة عن سيرة حياة الطوباويَّين مشاركة باللغة الفرنسية من قِبَل الأب كاللوني وباللغة العربية من قِبَل الأب حداد، قبل أن تُرفع الستارة عن الصورة المعتمدة رسمياً للطوباويَّين الجديدين وسط تصفيق حاد من المؤمنين. وتبِع ذلك قراءات باللغة العربية ومن ثم الرسالة فالإنجيل المقدس، ليُختتم القدّاس بكلمة للرئيس العام للرهبنة الكبوشية، الأب النفيلي، شكر فيها الحضور وكل من عمِل وشارك في إنجاح حفل التطويب.
عظة رئيس مجمع دعاوى القديسين
عظة الكاردينال سيميرارو، والتي اختار لها عنواناً «طلب العدالة للفقراء والضعفاء، هذه هي القداسة»، ركّز فيها على «الشعور بالعطش» و»العطشى» الذين يدعوهم يسوع المسيح أن يُقبِلوا إليه. فالشعور بالعطش يعني أحياناً العطش إلى العدالة التي تتحوّل إلى حقيقة في حياة كل شخص عندما يكون المرء عادلاً في اتخاذ قراراته، وتتجلى حيث يسعى المرء لتحقيق العدالة للفقراء والضعفاء وهذه هي القداسة.
وتطرّق الكاردينال سيميرارو إلى اللغة البشرية التي يُعبّر العطش من خلالها عن الرغبة وفي جميع الرغبات تعبير عن تاريخنا، من أفراح وآلام ونجاحات وإخفاقات وآمال وخيبات أمل. فالمسيح يدعونا إلى تحقيق كل رغبة جيّدة، لذا علينا أن نفكّر بالطوباويَّين الشهيدين. وإذ تحدّث عن حياة الطوباويَّين وشهادتهما، سأل عمّن يعطي الشهيد الجرأة ليكون شهيداً، ليضيف أن الروح القدس هو الذي يعطي الشجاعة مستعيناً بكلام القدّيس بولس الرسول: «الروح يعيننا في ضعفنا». وهي قوة روحية تشكّل أحد أسس الفضيلة، كما قال.
وختم الكاردينال سيميرارو كلمته بعبارات للقديس غريغوريوس الناريكي: «الشهداء المباركون الذين تكلّموا بآلامهم، يرقصون الآن بسعادة في عيد لا نهاية له. فبشفاعتهم وصلواتهم إقبلنا يا رب وأبقِنا مرتبطين بك بشدّة حتى نبلغ الخلاص الأبدي».
انطباعات من قلب الحدث
وقْع الحدث على المؤمنين جعل من السهولة بمكان اقتناص ومضات الفرح في عيونهم. حتى أن رهبة المناسبة أدّت بالبعض أن تخونهم العبارات. سألنا بعض من التقيناهم من الحضور عن شعورهم، فأجابنا أحدهم: «الحدث بشبهو لشمعة كانت عم تتحدّى الهوا وتنوص واليوم رجعت قويت». آخر قال: «حاسس بنار بقلبي وبجذوري وبضيعتي وببلدي». ليضيف ثالث: «محبة ونخوة عم تخلق من أوّل وجديد». وهكذا توالت الانطباعات: «الطوباويّان للبنان وليس فقط لبعبدات التي لم تُقصّر تجاه الكنيسة والوطن... فعندما يكبر لبنان نكبر جميعاً معه». وذهب آخر إلى مبادرتنا بالقول:»هما شمعتان أرسلهما الله لنا وإشارة ربّما لبداية نهاية الأزمة». نسأل أكثر فنسمع ردوداً أكثر: «الرب يقول لنا أنا معكم وإلى جانبكم، نحن نراكم من فوق ونمسك بيدكم». أيضاً وأيضاً، تعليقات إضافية من بين الحاضرين: «لبنان بدنا نعتبرو متل الابن الضال بس ربّنا ترك الـ99 خروف وإجا تيرجّع وطنّا»... «ما بتخايل بعد اليوم في حدا ما رح يحبّ بعبدات، لأنو بدل القدّيس قدّيسين»، و»مبروك للمؤمنين بكل مكان خاصة بلبنان لأنو عم نمرق بظروف صعبة كتير»... و»فرحانين إنو بعد سنوات كتيرة من الانتظار بعدنا عم نسمع بطوباويّين وقدّيسين»... الإيجابية بنفحة إيمانية والأمل كانا قاسماً مشتركاً بين الإجابات.
عن صورة الطوباويَّين الرسمية
الخلفية الدينية للصورة الرسمية للطوباويَّين وما ترمز إليه بكافة تفاصيلها شرحها لـ»نداء الوطن» السيد فارس ملكي قائلاً: «غصن النخيل الذي يحمله كل من الشهيدين هو علامة الشهادة كما ورد في الكتاب المقدّس، من هنا تمّ تقديم النخل إلى جانب القمح خلال الذبيحة الإلهية. أما بالنسبة للصليب الذي يرفعه الطوباوي ليونار في يده، فهو دلالة على الحِمل الثقيل الذي رافقه قبل استشهاده نتيجة تعرّضه لأبشع أنواع العذابات. في حين أن الإنجيل الذي يحمله الطوباوي توما يشير إلى الطريقة التي اتّبعها في تأدية رسالته، لا سيما في مواجهة التعاليم التي كانت تتعارض مع تلك الكاثوليكية في ذلك الوقت».
إلى بعبدات... وقدّاس الشكر
على وقع زغاريد وتصفيق أهالي البلدة وتحت وابل من الورد والأرز، استُقبل البطريرك الراعي ووفد من الأساقفة ورجال الدين في ساحة كنيسة مار جرجس الأثرية يوم أمس في بعبدات. وهي الكنيسة التي تعمّد فيها الطوباوي توما ونال فيها سرّ التثبيت مع الطوباوي ليونار. الاستقبال الحاشد الذي سبق قدّاس الشكر الإلهي، تخلّلته كلمة لرئيس البلدية، السيّد هشام لبكي، تضمّنت لمحة سريعة عن تاريخ الكنيسة التي تتميّز بدرجها الحلزوني الشكل. وألقى بعدها البطريرك الراعي كلمة عبّر فيها عن اعتزازه وفخره بلبنان وبعبدات وبالكنيسة بشكل عام، داعياً اللبنانيين لعدم الاستسلام مهما بلغت الصعوبات. كما وجّه رسالة محبة وصلاة إلى قداسة البابا فرنسيس لينتقل بعدها الجميع إلى كنيسة مار أنطونيوس البادواني للاحتفال بالذبيحة الإلهية. وكان لافتاً تأثّر الراعي خلال إلقاء كلمته، حيث توقّف عن الكلام ثلاث مرات متتالية، ماسحاً دموعه قبل أن يكمل بغصّة. وفي حديث سريع على هامش القدّاس خصّ به «نداء الوطن»، أوضح الراعي سبب تأثّره قائلاً: «كيف إنو الله بيكون حاطط عينو من البداية على أشخاص معيّنين، وكيف إنو التربية كفيلة توصّل هودي الأشخاص لعند الله»، مشيراً أيضاً في هذا السياق إلى تواضع الكنيسة التي نال فيها الطوباويّان سرّ التثبيت إضافة إلى الاستقبال العائلي الحارّ الذي لمسه من أهالي بعبدات. وعن سؤال حول معنى الحدث التاريخي وكيف أنه لا يعني حصراً الكنيسة اللاتينية، أجاب الراعي: «القداسة ليست حكراً على طائفة ولا على وطن وإنما هي للعالم أجمع». أما عن رأيه بتوقيت إعلان التطويب في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الوطن، لفت إلى أن الحدث جاء في وقته وأن «الرب يكلّمنا بطريقته على الدوام من خلال طوباويّيه وقدّيسيه، ليقول لنا إنه لا يمكن للإنسان أن يعيش من دونه وأنه ما زال موجوداً ليعيد إلى لبنان ما أضاعه بعض السياسيين وبعض من ابتعدوا عن طريقه». ودعا الراعي الشعب اللبناني إلى التحلّي بالإيمان والقوة لتخطي المرحلة وألّا يتركوا لبنان كما أن الله لن يتركهم، لينهي كلامه لنا قائلاً: «لا تخافوا، فلِكي نحظى بالمجد علينا أن نسير في طريق الآلام».