خالد أبو شقرا - نداء الوطن
نعمة التحويلات النقدية الواردة من المغتربين اللبنانيين، تقابلها نقمة التحويلات المعاكسة الصادرة من العمالة الأجنبية الوافدة. فإذا كان لبنان يحتل المرتبة الثالثة على سلم أكثر الدول العربية تلقياً للتحويلات بعد كل من مصر والمغرب، برقم وصل إلى «6.6 مليارات دولار في العام الماضي»، بحسب البنك الدولي، فهو يتصدّر أيضاً قائمة الدول قياساً إلى حجم التحويلات الخارجة بالنسبة إلى الناتج الوطني.
تحويلات العمالة الأجنبية في لبنان إلى الخارج وصلت في العام الماضي إلى 2.1 مليار دولار. الرقم بحد ذاته قد يبدو في بلد يستضيف بين 1.5 إلى 2 مليون بين لاجئ ونازح، ويعتمد إلى حد مفرط على العمالة الاجنبية في قطاعات الخدمة المنزلية والزراعة والبناء... معقولاً. إنما قساوته تظهر بالمقارنة مع مؤشري الناتج المحلي والتحويلات الداخلة. فهو يشكل 10.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي، إذا اعتبرنا أن الأخير هو بحدود 20 مليار دولار، كما أنه يمتص 31.8 في المئة من مجمل التحويلات الداخلة. وفي الحالتين فإن الرقم كبير، وقد تخطى في السنة الثالثة على الانهيار الحر الخط الأحمر وبدأ ينذر بانعكاسات سلبية.
الفرق بين العمالة الاقتصادية والتنافسية
التنقل بين الدول للعمل والاستثمار هو حق يكفله النظام الاقتصادي الليبرالي الحر. جذوره تعود إلى أواخر القرن السابع عشر حين طُلب من الحكومات عدم التدخل في السوق على قاعدة «دعه يعمل دعه يمر»Laissez Faire, Laissez Passer. وقد أيقن رجال الأعمال والاقتصاديون باكراً أن الإزدهار لا يتحقق في الدول من دون تبادل الخبرات واستقطاب العمالة المتخصصة والرخيصة. هذا من حيث المبدأ، أما من حيث الواقع فإن لبنان يجب أن يكون أكثر من يقدّر الحق بالتنقل والعمل وأن يتجنب التعامل مع الملف بعنصرية أو بـ»وطنجية» زائدة، نظراً لكونه «يصدّر» سنوياً عشرات آلاف العمال. لكن هناك فرق كبير جداً بين العمالة الوافدة لحاجة اقتصادية وتلك المستقدمة لحاجة تنافسية»، برأي النقابي أديب بو حبيب الذي شغل منصب ممثل عن الأجراء في عدد من مجالس العمل التحكيمية. فـ»العمالة الوافدة لحاجات اقتصادية لا تشكل عبئاً على الاقتصاد إنما فائدة مضافة. شرط أن تنطبق عليها كافة القوانين لجهة الإقامة وتسديد الضرائب، والالتزام بدوام العمل الرسمي، والتسجيل في الضمان الاجتماعي والاستفادة من تقديماته. وهي تستحق الدفاع عنها من قبل النقابات، مثلها مثل العمالة اللبنانية. أما في حال إعفاء العمالة الوافدة من الشروط التي تنطبق على العمالة الوطنية، سواء كان ذلك بسبب التقصير أو الإهمال أو التفلت وعدم المراقبة، فتتحول عندها هذه العمالة إلى تنافسية. حيث يعجز العامل اللبناني على منافسة مثيله الاجنبي أو الوافد من الدول العربية. وبحسب أبو حبيب فإن العمالة الاجنبية «التنافسية» تصل في بعض المؤسسات إلى حوالى 90 في المئة، بسبب التواطؤ بين أصحاب العمل والجهات الرقابية. بمعنى أن الاخيرة تغطي هذه المخالفات وتتراخى في تطبيق القوانين. حيث يتم إدخال العمال في بعض المؤسسات على أساس أنهم عمال نظافة ويتم تشغيلهم داخل المؤسسات بوظائف لا يسمح بها القانون. هذا فضلاً عن تغييب دور المؤسسة الوطنية للاستخدام وإصدار إجازات عمل تتناقض مع قوانينها، التحايل على القوانين كأن يتم استبدال (الخاء) بـ (القاف) في تعريف مكاتب العمالة الاجنبية، فتصبح مكاتب استقدام العمالة بدلاً من استخدام.
المشكلة ثقافية
«تصوير المشكلة بأن العمالة الأجنبية، سواء أكانت شرعية أم غير شرعية هي التي تقف خلف عدم توفر فرص عمل للبنانيين غير دقيق»، برأي الصناعي وعضو مجلس جمعية الصناعيين بول أبي نصر. و»نحن نشهد شحاً كبيراً جداً بتوفر العمالة اللبنانية، تحديداً غير المختصة منها. أي تلك التي تعمل على الماكينات في المصانع أو التنظيف، أو على محطات المحروقات أو في ورش البناء... وعليه فإن الاستعانة بالعمالة الاجنبية من قبل المؤسسات ليست للتوفير أو لدفع أجور أقل، إنما لعدم ارتضاء اللبنانيين العمل بالوظائف التي يشغلها حالياً الاجانب. مع العلم أن العامل الاجنبي يكلف المؤسسات أكثر». وبحسب أبي نصر فإنه من غير المنطقي بالنسبة إلى مؤسسات القطاع الخاص رفع الرواتب فوق طاقتها لاجتذاب العمالة اللبنانية غير المختصة، لأنه عندها لا يعود عملاً انتاجياً اقتصادياً، بل خيرياً».
الإحجام عن العمل في العديد من القطاعات يعود من وجهة نظر أبي نصر لأسباب ثقافية وليست مادية. و»في الوقت الذي يلف فيه لبنان العالم لاستدانة ملايين الدولارات لتمويل شبكة الحماية الاجتماعية، ودعم الأسر الفقيرة والمحتاجة بـ100 دولار شهرياً، يخرج من لبنان سنوياً 2 مليار دولار تحويلات من العمالة الاجنبية. وهذا المبلغ برأيه ممكن أن يشكل أهم شبكة حماية اجتماعية لا تقوم على إعطاء «سمكة المساعدات» لفترة محدودة، إنما تأمين العمل والمدخول الدائمين للعمال. بيد أن هذا الأمر يتطلب بعض التضحيات. فالعامل الاجنبي يقطع آلاف الكيلومترات للعمل، واللبناني لا يرتضي قطع 20 كيلومتراً للعمل بشكل أسبوعي في المؤسسات مع العودة إلى بيته في نهاية الأسبوع.
تحفيز الصناعة ودعم النقل
على الرغم من أهمية تطبيق القوانين للحد من العمالة التنافسية، وتغيير الثقافة المجتمعية إلا أنها تبقى قاصرة للقضاء على المشكلة إن لم تترافق مع إجراءات اقتصادية، وفي مقدمها حماية الصناعة الوطنية وتأمين النقل العام. فالمطالبات التاريخية بضرورة دعم كلفة الكهرباء للصناعة وحمايتها من الاغراق والمنافسة غير الشرعية لكي تتمكن من تخفيض كلفة الانتاج وتحفّز على تشغيل العمالة الوطنية، ما زالت تصح اليوم»، بحسب أبو حبيب. «كما تتطلب تأمين نقل عام يكفل وصول عمال الأطراف الى المدن ومراكز النشاط الاقتصادي بأقل أجر ممكن. حيث يعتبر الوصول إلى مكان العمل العائق الاكبر في ظل ارتفاع الكلفة وهو قد يعادل أو يفوق حتى الراتب أو الدخل الشهري. وهناك الكثير من الخطط في هذا الصدد ولعل أهمها ما اقترحه نقيب المهندسين السابق عاصم سلام لجهة بناء «مترو» من الكازينو مروراً ببيروت، ووصولاً إلى الدامور».
في الوقت الذي يستحيل أن يعيش فيه اقتصاد بلد ما مهما انكمش أو انهارت عملته من دون عمالة أجنبية، فان المطلوب في لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى تنظيم هذه العمالة، والقيام بخطوات مساعدة للحد من البطالة. حيث يلفت أبو حبيب إلى «ضرورة إنشاء صندوق البطالة الذي يمول بجزء منه من عوائد إجازات العمل والضرائب النوعية. الامر الذي قد يؤمن الحماية النسبية للعمالة الوطنية. ويحد من التدفقات الخارجة».