ميسم رزق
بعدَ كلّ ما قيل حول رؤية «الفاتيكان» للبنان والعلاقة مع حزب الله والردود المعارضة للانفتاح عليه، شهِدت الفترة الماضية خطوات أكدت نشوء علاقة جديثة يحتمل أن تتطوّر، وتمثّلت بعقد اجتماعات في السفارة البابوية مع وفد من الحزب، حيث نوقشت ملفات عديدة بمعزل عن الخلاف حول مسألة السلاح
كلّ الرهانات على محاولة عزْل حزب الله باءَت بالفشل. المتأمّلون في ذلك، خطؤهم أنّ رهاناتهم حبلى بأوهام عائمة على وعود الغرب، بينما الواقِع في مكان آخر. نظرياً، لا حدود لاستعراض «القوة» ضدّ الحزب و«هيمنته» على البلد، وإعطاء معلومات وتوجيهات ونصائح حول ضربِه. تمّ حشد كل عناصر العداء في وجهه، بدءاً من الخطاب «العنصري» بتصويره وبيئته دخيلين على نسيج المجتمع، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في السنوات الأخيرة وابتزاز اللبنانيين باستقرارهم الاقتصادي والنقدي والمالي مقابِل تخلّيهم عن حقهم في المقاومة، وأخطر ما في ذلِك، العمل على سلخ البعد الوطني عنها. حتى الهجمة على الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحرّ ورئيسه جبران باسيل لا تخرج عن هذا السياق.
ولكنْ للبعد العملاني سياق آخر، دفعَ بعدد من القوى الخارجية الفاعلة كي تعود إلى واقعيتها بالحدّ الأدنى بتسليمها أن الحزب هو فصيل لبناني وشريك أساسي في اتخاذ أي قرار متعلق بمستقبل البلد، أو أقلّه يملك حق الفيتو عليه، فانكفأت إلى مدار البحث في نقاط وهموم مشتركة معه. مِن هذا المنطلق، وخلافاً لكل السرديات الداخلية، كانَ لـ«الفاتيكان» موقف متقدّم بدأ يتظهّر منذ ما قبل زيارة الرئيس عون لها في آذار الماضي، وكانت الإشارات الأولية قد صدرت خلال زيارة وزير خارجية الفاتيكان بول ريتشارد غالاغير للبنان قبل عدة أشهر، عندما تحدث عن ضرورة الحوار مع الحزب والتحذير من عزله. وقد سمع الرئيس عون الكلام نفسه الذي قاله كبار المسؤولين في الفاتيكان حول أن حزب الله فريق لبناني يجب أن يكون هناك حوار معه.
وبمعزل عن الخلاف في ما يتعلّق بمسألة السلاح، يتعاطى «الفاتيكان» في رؤيته للوضع اللبناني على أنه لا ينفصل عن أزمة المنطقة، لذا يتطلّع إلى مقاربة أوسع وأشمل، وتحديداً في ما يتعلق بوضع المسيحيين العام ودورهم السياسي وحضورهم والتهديدات المحيطة بهم بسبب الانهيار الذي يضرب لبنان، فضلاً عن ارتباط لبنان بالأزمة السورية ومشكلة النازحين التي تشكّل خطراً ديموغرافياً حقيقياً على الوجود المسيحي.
يُدرك «الفاتيكان» الدور الذي قام به حزب الله في حماية هذا الوجود، كما هو مقتنِع بأن تفاهم مار مخايل الذي أبرِم بينه وبين التيار الوطني الحر عام 2006 ساهم في تعزيز الدور السياسي للمسيحيين في السنوات الماضية، وعليه، فإن كل الضجة الإعلامية التي أُثيرَت حول حقيقة موقف «الفاتيكان» ومحاولات نفي الإيجابية التي يحملها تجاه حزب الله لم تؤثّر على خطوط التواصل المفتوحة بينَ الطرفين، إذ علمت «الأخبار» أن ثلاثة لقاءات عقِدت في مقر السفارة البابوية مع وفود من حزب الله، تزامن أولها مع تعليق الحزب وحركة أمل حضورهما جلسات الحكومة على خلفيّة أزمة ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ويومها، كانَ لافتاً انتقاد السفير البابوي جوزف سبيتيري تسييس الملف وتطييفه، وجرى طرح إمكانية القيام بدور في هذا الموضوع.
يتعاطى «الفاتيكان» مع الوضع اللبناني باعتباره جزءاً من أزمة المنطقة
مطّلعون على أجواء هذه اللقاءات يؤكدون أن السفير البابوي كانَ دائم التنويه بالحوار القائم مع حزب الله، من منطلق أن الحوار هو ضرورة بينَ اللبنانيين بمن فيهم الحزب، علماً بأن «الفاتيكان» تعرّض لانتقادات كثيرة بعدَ زيارة غالاغير، الذي دعا الى تعزيز التواصل مع الحزب، وقال هؤلاء إن السفير البابوي أكد أنهم في «الفاتيكان» يبحثون عن كيفية دعم لبنان بالتعاون مع دول عدة، ويرون أنّ ما يُميّز لبنان عن جواره العربي، الذي يضمّ مسيحيين، هو مساحة الحرية التي يتمتّع بها.
وبينما أشارت مصادر إلى أن اللقاء الكنسي في سوريا، مطلع شهر آذار الماضي، الذي رعاه «الفاتيكان» وحضره رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري، إضافة إلى رئيس هيئات الدعم الاجتماعي في «الفاتيكان» وحضور عدد من القادة المسيحيين في سوريا، كانَ حاضراً في اللقاءات لأهميته، حيث أظهر النية الجدية لدعم الشعب السوري بمختلف طوائفه، أكدت أن ملف النازحين السوريين يحتل مساحة واسعة من الاهتمام، إذ كانَ السفير يؤكد أهمية حل هذه المشكلة في دول الجوار، لذا يبلغ ممثلو «الفاتيكان» المسؤولين الأوروبيين دائماً أن الوقت أصبحَ مؤاتياً.
بكثير من الحرص والإيجابية، يتلقّف حزب الله المبادرة الفاتيكانية تجاهه، وقد عبّر الوفد عن ارتياحه للإشارات الصادرة عن «الفاتيكان»، مؤكداً في اللقاءات أن حزب الله ليسَ لديه أعداء في لبنان، بل خصوم سياسيون، لذا هو يؤيد فكرة أن اللبنانيين محكومون بالحوار والتفاهم، وأشار أكثر من مرة إلى استعداد الحزب للتعاون في شتى المجالات، بما في ذلك ميدان الدعم والمساندة الاجتماعية. وفي ملف النازحين، تطرّق وفد الحزب إلى الحصار المفروض على سوريا والعقوبات الاقتصادية التي تحول دون عودة النازحين الى ديارهم، مشدداً على أنّ أكبر مساعدة يمكن أن يقدّمها المجتمع الدولي للبنان هي تسهيل هذه العودة. كما جرى التطرق إلى دور الحزب في حماية المسيحيين في العراق وسوريا والعلاقات التي نشأت مع الشخصيات المسيحية في هذه الدول، فضلاً عن علاقات واسعة نسجها الحزب مع المجتمع المسيحي في لبنان، مبدياً اهتماماً بموضوع هجرة الشباب، وخاصة الشباب المسيحي وما يترتّب على ذلك من تفريغ للبنان من طاقاته.
ما مِن شك، أن الطرفين يجدان مساحة مشتركة تفرض استكمال الحوار بينهما حول قضايا ذات طبيعة جوهرية في البلاد، ومن أبرزها الحضور المسيحي والمحافظة عليه وتعزيزه. ومع أن قوى كثيرة لن يُناسبها هذا الانفتاح لأنه يضرب مشروعها، يبدو «الفاتيكان» مُصرّاً على استكمال هذا التواصل في المجال السياسي المتّصل بدور المكوّنات الأساسية في لبنان ومسؤوليتها، ويُمكن أن يتطور إلى المجالين الاجتماعي والإنساني في ما بعد، علماً بأن هذا الأمر لا يزال قيد البحث والنقاش!
ويثير هذا الأمر تساؤلات شتّى عن تأثير هذا التواصل على العلاقة بينَ حزب الله وبكركي، حيث تتّسم الاتصالات بينهما بطابع بروتوكولي فقط. وبعدَ تصريحات البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في ما خص سلاح المقاومة وتحميل الحزب مسؤولية ما يحصل في البلاد. هذا التوتر لم يكُن حاضراً في اللقاءات، حيث لم يصدر عن الحزب أيّ انتقاد للبطريرك، علماً بأن السفير البابوي لمّح إلى إمكانية القيام بوساطة بين الحزب وبكركي.