راجانا حمية
لم يعد الصرف من العمل يستدعي الكثير من الضجيج، فمع تمدّد الأزمة الاقتصادية في البلاد، بات هذا الحدث عادياً. ليس مهمّاً اليوم أن يخسر عامل لقمة عيشه، إذ سبقه إلى البطالة مئات الآلاف من العمال الذين باتوا بلا حولٍ ولا قوة، في ظلّ دولة عاجزة عن الحماية وقانون للعمل لا يحمي من «الظروف القاهرة» التي يمرّ بها العمّال
لا إحصاء دقيقاً اليوم لمن باتوا في صفّ العاطلين من العمل، وآخر الأرقام التي نُشرت هي لـ«المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين» عن عام 2020، والتي تشير إلى أن الصرف من العمل طاول ما بين 500 إلى 800 ألف عامل، هم ـــــــ بالمنطق الاقتصادي ـــــ 500 إلى 800 ألف عائلة خسرت لقمة عيشها دفعة واحدة.
ما عدا هذا الإحصاء، لا أرقام جديدة تعدّد الخسارات، لأسباب كثيرة أولها أن الجهات التي يحيل إليها المصروفون شكاواهم لم تصدر عنها أية أرقامٍ رسمية. فلا مجالس العمل التحكيمية قادرة على تقديم هذا الإحصاء مع «تدوير» الشكاوى من عامٍ إلى آخر، ولا وزارة العمل التي اقتصرت وظيفتها أخيراً على «العدّ» أكملت معروفها العام الماضي، فلم يصدر التقرير عن عام 2021… بسبب النقص في القرطاسية، على ما تشير المصادر في ديوان الوزارة. أما السبب الآخر، فهو أن عدداً لا بأس به من المصروفين يحلّون قضاياهم مع أصحاب العمل قبل الوصول إلى الوزارة أو محاكم الدولة. أضف إلى ذلك وجود الكثير من الشكاوى «بالمفرّق» لدى النقابات والاتحادات التي اعتادت على متابعة قضايا هؤلاء، ومنها مثلاً الاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين في لبنان. لكن، مع ذلك، يمكن الاستناد إلى بعض المؤشرات للحديث عن جيشٍ من العاطلين من العمل يكبر يوماً بعد آخر، ومن بين تلك المؤشرات أعداد تاركي العمل لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والذي بلغ عام 2020 نحو 74 ألف أجير، من بينهم 55 ألفاً لم يسجّلوا مرة ثانية.
الحلول الحبّية
يحدث ذلك، فيما تقف الدولة موقف المتفرّج، حتى يكاد دور وزارة «الوصاية» يقتصر على تحسين شروط الصرف من العمل. أما اللجوء إلى محاكم الدولة، فقد بات ضرباً من ضروب الخيال، بحيث يفضّل المصروفون اليوم تفادي هذه الطريق بعدما باتت الخسارة فيها أكبر من بعض الليرات التي يمكن أن يحصّلوها، عدا الوقت الطويل الذي تستغرقه الشكاوى أمام مجالس العمل التحكيمية. لذا يختصرون عناء الوصول إلى هذه المجالس، ويتفاوضون مباشرة مع أصحاب العمل للحصول على مبلغ مُرض يكفي لعيش البطالة بأقلّ الخسارات الممكنة، بحسب رئيس الاتحاد الوطني للعمال والمستخدمين، كاسترو عبدالله. وفي حال تعثّر تلك المفاوضات، تتكفل وزارة العمل أو بعض النقابات على إثر الشكاوى التي يتقدم بها المصروفون بالعمل على حلّ المشكلة بين الطرفين «حبّياً».
تكدّس الشكاوى
أعدمت الأزمة في البلاد اليوم فرص «النجاة» أمام مجالس العمل التحكيمية، فطوال فترة الأزمة وجائحة كورونا أيضاً، لم يكن العمال قادرين على التقدّم بشكاواهم، «إذ لم يكن هناك موظفون في الغالب لتسلّم الشكاوى»، على ما يقول عبدالله. وإن وُجد الموظفون، أضرب القضاة. أما النتيجة، فتكدّس شكاوى بالآلاف هناك «لحفظ الحق ليس أكثر»، لكونه في حال لم تُسجل الدعوى خلال شهر من تاريخ الصرف، يسقط الحق. اليوم، تمارس مجالس العمل عملها «بالمراسلة»، إذ يشير عبدالله إلى «استبدال الجلسات بتبادل اللوائح، بحيث يتقدم العامل بشكوى على سبيل المثال، ويبلغ صاحب العمل الذي يحضّر ردّاً على الشكوى ثم يأخذ صاحب الشكوى الردّ ويحضّر ردّاً عليه...». هكذا، من دون طائل.
لم تصدر الوزارة تقريرها عن أعداد المصروفين بسبب النقص في القرطاسية
ليست مشكلة مجالس العمل استثنائية اليوم ولم تفرضها الأزمة الحالية، وإنما هي سابقة لها بسنوات كثيرة، حتى في الأيام الأكثر هدوءاً، كانت حركة تلك المجالس بطيئة. ويُعزى هذا البطء إلى أسباب كثيرة يعدّدها عبدالله، منها الخلل الحاصل في غرف مجالس العمل التحكيمية، إذ تتوزّع هذه الأخيرة على 23 غرفة في المحافظات، جلّها معطّل عن العمل. فعلى سبيل المثال، يوجد في بيروت 5 غرف، أما العامل منها 3 غرف فقط، وفي جبل لبنان، تتسلّم قاضية واحدة مهامّ غرفتين، علماً أن هذه المنطقة تأتي في المرتبة الثانية بعدد الشكاوى المقدمة. أما باقي الغرف، فيعتريها النقص إما بسبب «عدم التحاق بعض القضاة بهذه المحاكم، خصوصاً أن البعض يعتبرها ذات درجة متدنية وفيها الكثير من العمل والتعب»، وإما بسبب «انتقال قضاة من مكان إلى آخر، من دون وضع بديل لتسيير الأعمال».
...وتدويرها
وينعكس هذا الخلل على متابعة الشكاوى، وهو ما يتجلى في عدد الأحكام النهائية التي لا يمكن مقارنتها بعدد الشكاوى المقدّمة سنوياً. في المقابل، «تُدوّر» سنوياً آلاف الشكاوى التي لم يُبت بها، حتى تصل في بعض الأحيان مدة إقامة الشكوى هناك إلى ست سنوات، على ما يقول أحد المحامين. وهو ما يشكّل مخالفة للقوانين، وتحديداً قانون العمل الذي ينص في المادة 80 منه على أنه من واجب مجالس العمل النظر «في القضايا المرفوعة أمامها بالطريقة المستعجلة»، وكذلك شدّدت المادة 50 أيضاً على أن لا تتعدى مهلة البت بالقضية المطروحة أمامها «الثلاثة أشهر». وهي مهلة قد تستغرقها فقط مطالعة مفوّض الحكومة، تضاف إليها مهل أخرى يتسبب بها تأجيل الجلسات «لإبداء الرأي» والعطلة القضائية، يتابع الأخير. وإلى تلك الأسباب أيضاً، يضاف غياب أحد أطراف الشكوى ـــ وفي الغالب يكون الغائب صاحب العمل ـــــ وجهل الأجراء بإجراءات التقاضي والتبليغ. أما الأكثر سوريالية، فهو صدور أحكام تلائم ربّ العمل أكثر من العامل بالتواطؤ مع ممثلي العمال في تلك المجالس.
التهرّب من بدل النقل
يمتنع الكثير من أصحاب المؤسسات عن تطبيق التعديل الذي لحق ببدلات التنقل. وبحسب بعض النقابيين المتابعين لشكاوى العمال، فقد كثرت في الآونة الأخيرة الشكاوى على أصحاب العمل «الذين يرفضون دفع بدل النقل الجديد بالرغم من إقراره منذ شهر شباط الماضي، أو يعطونه وفق ما يرونه مناسباً لهم». على الضفة الأخرى، أسهمت هذه القرارات في دفع «عدد من المؤسسات وخاصة الصغيرة إلى تصفية أعمالها وصرف العمّال، خصوصاً أن بدل النقل بات أعلى من الحد الأدنى للأجور أو الرواتب التي يعطونها لهؤلاء الموظفين».
ثمّة حيل أخرى يتبعها بعض أصحاب المؤسسات للتخفيف من الأكلاف، إلا أنها زادت من سوء أوضاع العمال، ومنها «ما يقوم به أصحاب العمل حيث يعمدون إلى التوقف عن التصريح عن العمال لديهم، ومن ثم تسجيلهم في الضمان الاختياري، وبذلك لا يستفيد العمال لا من المعاش العائلي ولا تعويضات نهاية الخدمة».