دوللي بشعلاني - الديار
دخل لبنان في خضّم الحملات الإنتخابية التي تقيمها الأحزاب والقوى السياسية والمستقلّون في مختلف الدوائر الإنتخابية، وتسعى من خلالها الى شدّ العصب الطائفي، وتجييش الشعب بهدف الحصول على أكبر عدد ممكن من أصوات الناخبين. وبات أي حدث صغير أو كبير يُربط مباشرة بالإنتخابات النيابية المرتقبة خلال أيّام في الدول العربية في 6 أيّار المقبل، وفي 8 منه في الدول الغربية، وإن كان بعيداً عنها تماماً... وفي ظلّ هذه المعارك، لا يزال موضوع الترسيم البحري الحدودي يُبحث في الكواليس، لكي يكون لبنان جاهزاً فور عودة الوساطة بعد إجراء الإنتخابات، سيما وأنّ العدو الإسرائيلي يستعجل استكمال عملية شفط الغاز من «حقل كاريش» الذي يدخل، من وجهة نظر لبنان، ضمن المنطقة المتنازع عليها القائمة بين الخطّين 23 و29. وكانت وضعت الحكومة اللبنانية الأمم المتحدة في أجواء قيام العدو الإسرائيلي بأعمال التنقيب فيها، محذّرة من تعريض الأمن والسلم الدوليين للخطر، طالبة منها التحقّق من حقيقة الأمر في الرسالة الأخيرة التي أرسلتها لها في 28 كانون الثاني الفائت.
أوساط ديبلوماسية عليمة أكّدت أنّ الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي آموس هوكشتاين لم يكن يريد إعادة إطلاق المفاوضات التي جرى تعليقها في 5 أيّار من العام الماضي، حتى أنّه لم يكن ينوي تقديم أي عرض من شأنه «إسعاد» الجانبين.. فقد وضع اقتراحاً يعلم مسبقاً أنّه لن يرضيهما، لكنّه كان يريد التوصّل سريعاً الى اتفاق بينهما يبدأ على إثره الإستفادة من الغاز الموجود في البحر، والذي «يُخسّر»، بحسب رأيه، كلّ من يتركه هناك مغموراً في الأعماق لسنوات، ولا يستفيد منه سريعاً. ولهذا أعلن آنذاك أنّه في حال لم يتمّ التوصّل الى اتفاق في غضون أشهر، وحدّدها بأواخر آذار من العام 2022، أو بـ «قبل الإنتخابات النيابية في لبنان» (أي قبل أيّار 2022)، فإنّه سيتخلّى عن دوره في الوساطة الأميركية.
وتقول الاوساط بأنّ الجانب الأميركي الذي أراد حلّاً مقبولاً للحدود البحرية لصالح كلا الجانبين، لم يقم بتقديم هذا الحلّ، بل قدّم هوكشتاين بعد الجولتين المكّوكيتين اللتين أجراهما بين لبنان والعدو الإسرائيلي، عرضاً منحازاً لهذا الأخير بطريقة واضحة، الأمر الذي جعل لبنان يُفرمل المضي باعتماد الخط 23 كحدود بحرية له إذ كان يعتقد أنّه سيحصل عليه كاملاً، وعلى كلّ ما يدخل ضمنه في المنطقة المتنازع عليها. ولكن بدا جليّاً من خلال اقتراحه الأخير أنّه أعطى الكثير لـ «الإسرائيلي»، على حساب حقوق لبنان الطبيعية المدعّمة بالمستندات والوثائق والخرائط والإتفاقيات.
ولكن يرى هوكشتاين اليوم بعد «رفض» لبنان عرضه الأخير من دون أن يُعلن ذلك صراحة، أو يبلّغه إيّاه رسمياً، بل تمسّك باستمرار الجهود الأميركية والوساطة للعودة الى طاولة المفاوضات وفقاً لاتفاق الإطار لما تقتضيه مصلحة لبنان العليا.. هذا الإتفاق الذي كان متفقاً عليه بين الجانبين، على ما أوضحت الأوساط نفسها، بعد مناقشات غير مباشرة دامت 10 سنوات، وإلّا لما ذهبا الى طاولة الناقورة برعاية أممية ووساطة أميركية، من شأنه أن يُعيد الجانبين الى الطاولة لمتابعة البحث في ترسيم الحدود البحرية.
وبرأي الاوساط، إنّ العدو الإسرائيلي يُحاول الإستفادة من الوقت الضائع في استكمال أعمال التنقيب في القسم الجنوبي من «حقل كاريش»، كون القسم الشمالي منه يدخل ضمن المنطقة المتنازع عليها التي حدّدها الوفد اللبناني العسكري المفاوض باسم لبنان على طاولة الناقورة.. في حين لم تبدأ أعمال الإستكشاف والتنقيب في البلوكات البحرية اللبنانية بعد الضغوطات التي تعرّضت لها شركة «توتال» الفرنسية التي ترأس «كونسورتيوم» الشركات النفطية الملزّمة عن التنقيب في البلوكين 4 و9. ولهذا أرجأت البدء بعملها معتمدة على ما تنصّ عليه الإتفاقية الموقّعة بينها وبين لبنان بأنّه يُمكنها تعديل المواعيد، فيما لم يعمد لبنان الى إنهاء هذه الإتفاقية، وتلزيم شركات أخرى أعمال التنقيب في البلوكات المحاذية لمنطقة النزاع الحدودية، كونه لا يريد إثارة المشاكل مع فرنسا التي تعمل على تقديم الدعم له على مختلف الصعد.
وفيما يتعلّق بالجولات المكوكية التي استعاض بها هوكشتاين عن العودة الى طاولة الناقورة، رأت الأوساط عينها، بأنّها أعاقت التوصّل الى اتفاق بدلاً من أن تُسهّل الأمر. فقد كان الوسيط الأميركي يعتقد أنّه بإمكانه إقناع الجانبين بمقترحاته، غير أنّه تبيّن له أن المهمّة معقّدة أكثر ممّا كان يتصوّر.. ولهذا، فإنّ عودة الوساطة الأميركية بعد الإنتخابات النيابية، لا بدّ وأن تأخذ طابعاً آخر، مثل استئناف جولات المفاوضات غير المباشرة في الناقورة مُجدّداً، كون الجولات المكوكية لم تُجدِ نفعاً، ولم تُحدث أي تقدّم ملموس في التفاوض، بل على العكس أعادته الى الوراء، وتحديداً الى الجولة الأولى التي انعقدت في 14 تشرين الأول من العام 2020.
أمّا التنازلات الجادّة التي كان يتطلّع هوكشتاين الى أن يُقدّمها كلّاً من الجانبين، فكادت تحصل من الجانب اللبناني فقط، في حين تمسّك «الإسرائيلي» بما لا يُعتبر حقوقاُ سيادية له، على ما كان يصفها باستمرار، وأراد الإستفادة قدر المستطاع من الصفقة، عن طريق أخذ قسم من البلوك 8، أي أن يُشارك لبنان فيه، كما الجزء الجنوبي من «حقل قانا»، ما يجعل عنصر مشاركة لبنان في حقوله النفطية قائمة أيضاً، ولا تقتصر فقط على تقاسم البلوكات البحرية.. هذا الأمر الذي يرفضه لبنان بشكل قاطع، سيما وأنّه يحمل نوايا إسرائيلية مبيّتة.
إذاً، الصفقة على ترسيم الحدود البحرية، لم تتمّ قبل الإنتخابات البرلمانية في لبنان، على ما كان يأمل هوكشتاين، والذي أعلن أنّه سينهي دوره في حال لم يتمّ التوصّل الى اتفاق بين الجانبين قبلها، ما يعني أنّ وساطة هوكشتاين شخصياً أصبحت على المحكّ.. غير أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الستارة قد أسدلت عن هذا الملف، على ما أضافت الاوساط، بل على العكس. فالمحادثات تجري في الكواليس لمعرفة كيفية متابعته فور انتهاء الإستحقاق النيابي، كونه ملفاً حيوياً من شأنه إنقاذ لبنان من أزمته الإقتصادية والمالية في حال أحسن المسؤولون وضعه على السكّة الصحيحة والإستفادة من الثروات من الغاز والنفط الدفينة في المنطقة البحرية.