يمنى المقداد - الديار
لم يلبث الثبات الوهمي لسعر صرف الدولار في لبنان أن كشّر عن أنيابه و بدأ بافتراس ما تبقى من مقوّمات حياة اللبناني، فذلك الهدوء المصطنع الذي لطالما وصفه اقتصاديون بالوهمي، أعلن اليوم عن حقيقة جديدة وهي أنّ سعره وهمي تماما كثباته، فهو يتجاوز عتبة الثلاثين ألف ليرة للدولار الواحد علما أنّ التعاملات به لا تزال في مرحلة العشرينات حتى اللحظة.
فما سبب ثبات سعر صرف الدولار لفترة طويلة نسبيا مؤخرا، مقارنة بالقفزات السابقة له؟
الباحث الإقتصادي زياد ناصر الدين اجاب في حديث لـ «الديار»: أنّ سبب استقرار سعر الصرف في الفترة الماضية يعود للاتفاق السياسي الذي جرى بين حاكم مصرف لبنان ورئيس الحكومة، بغية تمرير فترة الإنتخابات، لافتا إلى أنّنا نعيش اليوم مرحلة تشبه مرحلة تثبيت الدولار على 1500 ليرة، فيما سعره الحقيقي كان 4500 ليرة حينذاك، واليوم نعيش في مرحلة سعر صرف منصة 22900 ليرة، وسعر صرف سوق سوداء تجاوز 27 ألف ليرة، لكن تقنيا وواقعيا فإنّ سعر صرف الدولار يتخطّى الـ 33 ألف ليرة متسائلا حول حجم ما نستهلك هذه الفترة من الإحتياطات والعملات الأجنبية وتأثيراته الكارثية.
وعن اسباب معاودة عدّاد الدولار للإرتفاع تدريجيا متجاوزا 27 ألف ليرة للدولار الواحد، تطرّق ناصر الدين إلى عوامل خارجية ساهمت في عودة ارتفاع سعر صرف الدولار، منها وقوع أزمات في العالم وما رافقها من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية ومصادر الطاقة، ما تطلب إستعمالا أكبر للدولار، وفي الوقت نفسه لم تستطع المنصة أن تتحمّل هذه الأرقام، واضعا ذلك كجزء من واقع إقتصادنا الإستهلاكي والمدولر وغير المنتج، ما سيجعل الكلفة أكبر، لتصبح النقطة الأساسيّة اليوم مرتبطة برأيه بالإجابة عن السؤال الاتي: هل سيظل هذا الاتفاق السياسي مستمرا لما بعد الإنتخابات أم أنّه سيتوقف؟
أمّا العوامل التقنية الداخلية لارتفاع الدولار فهي تتمثّل، وفق ناصر الدين» بعدم الاستقرار السياسي، وعدم وجود خطة إقتصادية واضحة، وانتفاء القدرة على حلّ ملفات إصلاحية مهمة جدا لا سيّما على مستوى الكهرباء، فضلا عن عدم وجود حلول لكثير من الأمور التي يحتاج إليها الاقتصاد اللبناني، لافتا إلى أنّنا لا نزال نعيش بنفس واقع النظام الريعي والواقع المالي الذي يفتقد الحلول المناسبة، وبالنتيجة كلما انخفضت أموال الإحتياطات كلما ارتفع سعر صرف الدولار».
اضاف: يتخوّف اللبنانيون اليوم من تدهور سعر الصرف بعد الانتخابات، ومن الحدّ الذي يمكن أن يصل إليه. وهذه الأمور قد تكون مفتوحة خاصة أننا أمام إستحقاقات سياسية مهمة جدا منها تشكيل حكومة ما بعد الإنتخابات، والتي ستشرف على الإنتخابات الرئاسية، وشرح أنّه إذا دخل البلد في فراغ وتأخر تشكيل الحكومة وانتخابات رئاسة الجمهورية فهذا سيؤدي الى ارتفاع هائل في سعر صرف الدولار خاصة في ظل عدم القدرة على إنتاج خطة إقتصادية مناسبة، لافتا إلى أنّ خطة التعافي المطروحة تتضمن جريمة مالية على المستوى النقدي والمالي عبر شطب 60 مليار دولار بشكل عشوائي وتحميل خسائر 75% للمودع، وهذه نقطة لها تداعيات سلبية لاحقا على الأسواق اللبنانية وعلى المودعين.
ويرجح ناصر الدين ارتفاع سعر الدولار بعد مرحلة الإنتخابات إلى أرقام كبيرة جدا، لعدم وجود إستقرار سياسي وخطة اقتصادية ودور اقتصادي للبنان، خاصة في ظل تغييب ملف الغاز بشكل كامل، علما أنّ هذا الملف جزء أساسي من مكامن الإنقاذ الاقتصاي الكبير، مؤكّدا أنّنا نتّجه نحو واقع غير منضبط بسعر الصرف في هذا الواقع الذي تتّجه فيه الدولة بسياساتها الريعية والنقدية حاليا.
صندوق النقد وإستقرار سعر الصرف!
وعن تأثير الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي ايجابيا في استقرار سعر صرف الدولار، يجيب ناصر الدين بأنّ لبنان يحتاج سنويا على مستوى مصادر الطاقة إلى 2.5 مليار دولار مازوتا، و 1.5 مليار دولار فيولا، و 1.1 مليار دولار بنزينا، إضافة لنحو 1.5 مليار دولار أدوية و 1.5 مليار دولار مواد غذائية، لافتا إلى أنّ صندوق النقد سيعطينا 3 مليار دولار على أربع سنوات مع حاجة لدينا تفوق الـ 6 مليار دولار سنويا وليس هناك من إمكان لاستهلاك أقل من هذا المبلغ سنويا في ظل عدم إصلاح ملف الكهرباء والإتصالات والطرقات والبنى التحتية والتقديمات الإجتماعية والمدرسية والطبابة وسواها، معتبرا أنّ كل هذا الواقع لا يساعد على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يأخذ لبنان باتجاه سياسة معينة لقطع الطريق على تنويع خيارات أخرى.
أمّا عن التداعيات الإقتصادية لارتفاع الدولار فهي سيئة جدا، برأيه والذي لخّصها بالتضخّم وارتفاع الأسعار في ظلّ نظام يعتمد على الإحتكارات والمضاربة ويحاول تحميل المغتربين والمودعين بشكل أساسي فشل السياسات الحكومية وارتهانها لنظام ريعي اقتصادي جعلنا ندفع الثمن بالحجر والبشر وكلفة مالية مهولة وخسائر على الإقتصاد فاقت الـ 100 مليار دولار نتيجة السياسات النقدية والإشراف المباشر عليها من قبل سياسات مرتهنة للخارج ولا تزال حتى اليوم تتحكم بدولتها العميقة بكل المفاصل الداخلية في لبنان.
تدخل «المركزي» وكلفته المالية
عن سبب استقرار سعر الصرف في الفترة السابقة، أوضحت المتخصصة في الإقتصاد النقدي في البلدان المدولرة الدكتورة ليال منصور لـ «الديار» أنّ المصرف المركزي كان يتدخل بقوّة لتثبيت العملة بين 20 و22 ألف ليرة لفترة، وهو يسمّى «تثبيت العملة بتدخل البنك المركزي»، وهذا النوع من التدخل لا يمكن أن يستمر أو ينجح، علما أنّها سياسة نقدية صحيحة، بشرط أن تحصل لمرة واحدة وتكون ضمن برنامج إقتصادي كامل و شامل، لافتة إلى أنّ هناك ما يسمى بتغيير نظام سعر الصرف وهو أمر ضروري جدا، مؤكدة أنّه عندما انخفض الدولار كنّا نعلم جيدا أنه لن يستمر طويلا، وموضحة أنّ سياسات تدخل البنك المركزي لتثبيت الدولار، كانت تكلّف أسبوعيا فوق الـ 200 مليون دولار وأحيانا 300 مليون دولار ووصلت في بعض الأوقات إلى حدود مليار دولار، متسائلة: من أين سيأتي البنك المركزي بالدولارات كي يستمر في التدخل ليخفض سعر الصرف؟ وتابعت بأنّه صحيح أنّ المركزي خفّف من التضخم من خلال طباعة الأموال لكنه في المقابل زاد من تقلّص الاقتصاد، معتبرة أنّ هذه السياسة لم تكن ناجحة لأنها ليست كاملة وشاملة ومترافقة مع برنامج اقتصادي متكامل.
«انخفاض الدولار كان لفترة مؤقتة ووهمية وسيرتفع مجددا وهذا ما يحصل»، هي محصلة يجمع عليها كلّ الإقتصاديين في لبنان حتى وإن كانوا أصحاب آراء وحلول مختلفة، وفق منصور التي تطرّقت الى أسباب أخرى زادت الطلب على الدولار منها زيادة الإستيراد بسبب الحرب في أوكرانيا كما في موضوع القمح، وكذلك ارتفاع سعر البنزين والمازوت، مضيفة أنّ المصرف المركزي لم يعد لديه الأموال الكافية كي يضخّ دولارات، وتابعت أنّ هذه السياسة لن تقوى على الإستمرار وهم يحاولون المماطلة فيها حتى الانتخابات كي يعيش الناس قليلا بنوع من الهدوء «ويمرقوا فترة ما قبل الانتخابات وبعد الإنتخابات بيكون اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب».
وعما اذا كان توحيد وثبات سعر الصرف هو الحل الامثل ، تؤكّد منصور أنّه لا يوجد نظام سعر صرف واحد جيد لكل البلدان والأزمات، فكل بلد يتطلب سعر صرف محددا بحسب وضعه الإقتصادي، ففي التسعينات كان سعر الصرف 1500 ليرة هو الأنسب في لبنان علما أنّ صندوق النقد الدولي عام 1994 كان قد طلب منّا الذهاب إلى الدولرة الشاملة، ولكن دائما ما كانت هناك خطوة أخيرة قبل اعتماد هذا الحل وهو التثبيت الذي جرى في ذلك العام، ما يعني أنّ لبنان لجأ إلى آخر»كرت» حينها، ومضطر اليوم للذهاب إلى الحل الوحيد وهو ما يسمى «الدولرة الشاملة»، أو نسختها المسمّاة currency board، لا سيّما حين يكون البلد خدماتيا وليس منتجا ومريضا ومدولرا لهذه الدرجة وفاسدا وفاشلا وقطاعه المصرفي مضروبا، مشيرة إلى أنّ أيّ حل آخر لا يمكن أن يطبق بنجاح، وسألت: «هل يوجد بلد في العالم نجح معه نظام سعر صرف مختلف غير الدولرة الشاملة أو currency board»؟
خلاصة القول... رغم كلّ هذا الإنهيار، لا يزال بعض أهل الحكم يلعبون في الوقت الضائع على أمل تسجيل نقاط إنتخابية يوهمون بها الناس أنّ البلد يسير نحو التعافي، فيما الحقيقة الوحيدة هي أنّ أبواب النواب ستقفل أمام المواطن بعد الإنتخابات ليبقى يصارع وحيدا ارتفاع الدولار وتبعاته المعيشية، ويجهد لتحصيل قوته اليومي فيما الحقوق الأخرى كالتعليم والطبابة والإستشفاء أصبحت بمتناول الأغنياء فقط في لبنان، فالدولار اليوم قال كلمته، والضرائب على موعدها بعد الإنتخابات!