ندى أندراوس - الجمهورية
ما تشهده طرابلس من مآسٍ وحوادث كالتي عاشت أحد فصولها بغرق زورق بعدد من أبنائها، لم يعد غريباً عليها وعلى أهلها الذين يعاني القسم الأكبر منهم من الفقر والحرمان والبؤس. فالتآمر على الطرابلسيين بدأ منذ التآمر على مدينتهم، ليس من اليوم انما منذ سنوات. عندما حُوّلت طرابلس - صلة الوصل بين الشاطئ الشّرقي للبحر الأبيض المتوسط، والدّاخل السّوري والعربيّ - من مدينة عريقة في التاريخ، واقتصادية وسياحية وصناعية وتجارية بامتياز، إلى ساحة لجولات المعارك وصندوق بريد لتصفية الحسابات.
تحوّلت أحياؤها التي لم يبق من هويتها سوى التسمية كسوق النحاسين وسوق الصاغة الذي يعدّ من أجمل الاسواق الطرابلسية وأقدمها، أسواق العطارين والصابون والبازركان وخان الخياطين والحدادين وغيرها من الاسواق، إلى أحياء وأسواق هي الأفقر على ساحل البحر المتوسط. فقر وبؤس جعل من شواطئها مقبرة للعديد من أبنائها.
قافلة الموت التي انطلقت السبت الماضي لم تكن الاولى ولن تكون الاخيرة، ما دام هناك مسؤولون في طرابلس وخارجها لا مسؤولين، وما دام هناك من يستثمر بالدم ويحرّك مجموعات وشوارع لتسجيل أهداف ضدّ خصومه على حساب الضحايا.
ما حصل بعد كارثة غرق الزورق دليل آخر على ذلك. إذ تمّ حرف الأنظار عن المسؤولين الحقيقيين، الذين بسياسات تفقيرهم للشعب يتحمّلون مسؤولية الكارثة. سياسيون، فاعليات، سلطات محلية وإنمائية، التي غيّبت جميعها الإنماء وفرص العمل، وحرمت الفقراء من شبكة الامان الاجتماعي.
في تحميل الجيش المسؤولية، استفاد تجار الموت الذين ينشطون على خط الهجرة غير الشرعية، وحرّكوا الشارع في الاتجاه الخاطئ. فوضع الأهالي وعائلات الضحايا في مواجهة مع الجيش، الذي خسر عناصر منه افراداً من عائلاتهم كانوا على متن زورق الموت.
لكن الوقائع بدأت تتكشف. وفي خاص «الجمهورية»، فإنّ التحقيقات الأولية، بالإضافة الى التحقيقات الداخلية التي اجراها الجيش، وسيستكملها القضاء العسكري بطلب من مجلس الوزراء، بعدما أطلع قائد الجيش المجلس على تفاصيل ما حدث أثناء ملاحقة الجيش الزورق، كشفت أنّ المواطن رائد محمد الدندشي وبالتعاون مع المدعو محمد وليد الحموي، سوري الجنسية، جهّزا مركب «يا هلا» لنقل دفعة من المهاجرين إضافة الى عائلاتهما، من بلدة قلحات جنوب طرابلس الى اوروبا. كما بيّنت التحقيقات مع عدد من الركاب، انّ الدندشي والحموي قد تقاضيا مبلغاً قدره حوالى 2500 دولار عن كل فرد، واتفقا مع المواطن السوري ابراهيم عبد الله الجندي تولّي قيادة الزورق، مع الإشارة الى انّ لكل من الجندي والحموي سوابق بنقل مهاجرين غير شرعيين في البحر الى اوروبا. كما كشفت التحقيقات أنّ من بين من تحرّكوا على الارض إثر الحادثة أشخاصاً من آل الدندشي كان أُوقف بعضهم في عمليات تهريب مماثلة منذ أشهر وإتجار بالبشر، لم يتشدّد القضاء في محاسبتهم وأُعيد إطلاقهم.
التحقيقات بينّت أيضاً، أنّ الاتفاق كان مع الدندشي والحموي على ألّا يزيد عدد الركاب عن الـ40. لكن عند الوصول إلى نقطة الانطلاق من منتجع البرج المهجور في بلدة قلحات، فوجئ البعض بأنّ العدد فاق الـ80. وبما أنّهم دفعوا ثمن رحلتهم غالياً إيماناً منهم بأنّها ستنقلهم الى مستقبل أفضل، أذعنوا وانضموا الى الطاقم وانطلقوا عند الساعة 7:15 مساء السبت في رحلة لم يعلموا أنّ الموت سيخطف عدداً منهم في نهايتها.