جوني منيّر - الجمهورية
إنتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي فاز بنتيجتها ايمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية وأخيرة، ولكن من دون ان ينتصر. لكن لبنان الذي تابع عن كثب تطورات الانتخابات الرئاسية الفرنسية، عليه ان ينتظر حتى 19 حزيران موعد صدور نتائج الانتخابات النيابية الفرنسية قبل إقدام ماكرون على طرح مبادرته حيال لبنان بإسم فرنسا والاتحاد الاوروبي ايضاً.
في الواقع، وعلى الرغم من الفوز الباهت لماكرون، الّا انّ الانتخابات الرئاسية الفرنسية حازت على اهتمام دولي خاص في ظل الحرب الخطرة الدائرة في اوكرانيا وتصاعد نفوذ اليمين المتطرّف داخل فرنسا.
والثابت انّ حرب اوكرانيا ستُحدث تغييرات عميقة في اوروبا، حيث يجري التحضير لبدء نقاش استراتيجي حيال مستقبل القارة.
رئيس جهاز الـ CIA وليم بيرنز، كان قال إنّه في حال ثبت لموسكو أنّها غير قادرة على تعويض نكساتها العسكرية من خلال الاسلحة التقليدية، فقد تتخذ في النهاية قراراً باستخدام اسلحة نووية ولكن على مستوى تكتيكي ومخفوضة القوة. وهو ما يعني شعور اوروبا اكثر فأكثر بحاجتها الى المظلّة النووية الاميركية.
فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، لم تعد سوى فرنسا الدولة النووية الوحيدة في الاتحاد، ولكن مع قوة لا تتجاوز الـ 300 رأس نووي لا غير، مع العلم أنّ إطلاقها في حاجة الى 4 غواصات نووية لا تمتلك منها باريس سوى اثنتين موجودتين في الخدمة. المهم انّ الحوار الاوروبي الاستراتيجي الذي سينطلق بعد الانتخابات التشريعية الفرنسية سيلحظ مساعدة فرنسا في تعزيز دورها وقوة الردع لديها ووضعها في خدمة اوروبا، من خلال حلف «الناتو».
فمن أسباب القلق في اوروبا ما يتعلق بالضعف الذي يعتري الحزب الديموقراطي الاميركي والذي يستعد لهزيمة قاسية في الانتخابات النصفية، وربما الانتخابات الرئاسية في العام 2024 خصوصاً أن لا بديل حتى الآن عن بايدن، في وقت يجنح الجمهوريون إلى نظرة سلبية تجاه حلف «الناتو» وهو ما يعني أنّ على اوروبا ان ترسم استراتيجية جديدة تلحظ فيها التعامل مع كل الاحتمالات.
والأهم انّ ساحات الشرق الاوسط ومن ضمنها الساحة اللبنانية ستتأثر بكل هذه التطورات. فعند شرق البحر الابيض المتوسط عززت البحرية الروسية من حضورها وقدرتها إلى ما يزيد على الضعف، وصولاً الى سواحل اليونان، فهذه المنطقة تشكّل القاعدة الخلفية للبحر الاسود.
وفي المقابل، تعمل البحرية الاميركية على تعزيز حضورها البحري بقوة للمرة الاولى منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، في موازاة تنسيق بحري فرنسي ـ تركي بعد مناورة مشتركة حصلت شرق البحر المتوسط لم تكن اليونان بعيدة منها. فالبحر المتوسط يؤمّن إمدادات إجمالي الطاقة في العالم بنسبة 65%، إضافة الى نحو 30% من حركة التجارة العالمية.
روسيا من جانبها تعمل على التخفيف من حجم قواتها البرية العاملة في سوريا، فيما تقوم ايران بملء هذه الفراغات، وهو تطور يقلق اسرائيل.
وفي المقابل، وفيما تعمل واشنطن على التخفيف من تركيزها على الشرق الاوسط وتحول جهودها للمواجهة مع روسيا، اندفعت اسرائيل لرسم نظام اقليمي واسع جديد، يقوم على التحالف مع الدول العربية والتعاون، من خلال أنظمة الدفاع الجوي المشتركة، إلى جانب حركة ديبلوماسية تطاول اليونان غرباً والهند شرقاً.
هي اذاً التأثيرات الهائلة على الشرق الاوسط نتيجة الحرب في اوكرانيا. ومن هنا سعي الرئيس الفرنسي إلى عدم وضع ملف الشرق الاوسط، وبالتالي الملف اللبناني، على الرف، بسبب الإنشغال بتعقيدات الوضع الاوروبي. وقد قالها ماكرون في عزّ الإنشغال بالحملات الانتخابية الرئاسية، أنّه ستكون لديه مبادرة سيطرحها بعد الانتخابات.
في الواقع سينتظر ماكرون إلى ما بعد انتهاء الانتخابات التشريعية على الرغم من المؤشرات التي لا تميل لمصلحة حزبه.
ففي آخر استطلاع قال 63% من الفرنسيين إنّهم لا يريدون ان يحظى ماكرون بغالبية في البرلمان، وانّهم يرغبون بحكومة تعايش. وفي حال الذهاب في هذا الاتجاه، فإنّ المشكلات الداخلية التي سيعانيها ماكرون خلال ولايته الثانية قد لا تنعكس بالضرورة على مبادرته تجاه لبنان، أولاً بسبب المصلحة الاستراتيجية لفرنسا، وثانياً بسبب التوافق الداخلي حيال سياسة فرنسا تجاه لبنان، وهو ما ظهر من خلال كلام زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن منذ اسبوعين.
من المتوقع ان يعمد ماكرون بداية على تعديل وتبديل أعضاء فريقه المكلّف الملف اللبناني. كما انّ من المفترض ان ينطلق الصندوق السعودي ـ الفرنسي والمخصّص لتوزيع المساعدات مع حلول عيد الفطر. وقبل ايام عُقِدَ اجتماع افتراضي من خلال تقنية «زووم» شارك فيه ديبلوماسيون خليجيون، وخُصّص للبحث في طريقة إطلاق عملية توزيع المساعدات.
صحيح انّ العلاقات السعودية بالإدارة الاميركية باردة وسط توقعات بأن تبقى كذلك إلى حين الانتخابات الاميركية النصفية والتي يرجح تسجيل استعادة الجمهوريين للغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب، الّا انّ المبادرة الفرنسية والتي تحظى بمتابعة اميركية من كثب، تعمل على نسج الخيوط المطلوبة مع السعودية. وقد ظهر ذلك في لبنان وخصوصاً مع عودة السفير السعودي.
لكن المبادرة الفرنسية ستحظى في الوقت نفسه بتواصل مع ايران وبحركة ما في اتجاه سوريا لتأمين نجاحها في لبنان.
هي حركة متكاملة لم تحجبها تداعيات الحرب الدائرة في اوكرانيا، لا بل على العكس، ولم تفرملها الانتخابات الرئاسية الفرنسية لحسن الحظ.
لذلك فإنّ التشكيك الدائم بحصول الانتخابات في موعدها ليس واقعياً رغم الاهتزازات الدائمة التي تشهدها الساحة اللبنانية. ولذلك ايضاً، قد لا تشهد توازنات المجلس النيابي المقبل تبدّلات او انقلابات واسعة، وهذا ما يفسّر العودة المدروسة للسفير السعودي وخطواته المرسومة بعناية.
اما بعد ظهور النتائج الرسمية، فإنّ المرشح المفترض لتشكيل الحكومة المقبلة هو نجيب ميقاتي، كونه يحظى بالتأييد الفرنسي، مع الإشارة الى انّه سيرفض تشكيل حكومة من سياسيين او حزبيين. وما قد يُطرح هو استبدال بعض الوزراء لتجديد شبابها، وإلّا فإبقاء القديم على قدمه، ولو بقيت الحكومة في إطار تصريف الاعمال، خصوصاً انّ الفراغ الرئاسي إذا ما حصل لن يكون طويلاً بل لفترة وجيزة، كون المبادرة الفرنسية سيجري تتويجها بتسوية لبنانية، ما سيدفع لبنان الى مغادرة ساحة الانهيارات في اتجاه ساحة الاستقرار، من المفترض ان تكون صعبة ولكن آمنة.