خالد أبو شقرا - نداء الوطن
عبثاً يحاول الجميع "إنبات" الحلول المستقيمة للأزمة الاقتصادية، طالما "نيرها" لا يستوي على "عنقي" القطاعين العام والخاص. فعلى حد قول المثل الشعبي "الثلم الأعوج من الثور الكبير"، فإن الحجم الهائل للدولة، ونِفاق مسؤوليها في إدارة مؤسساتها سيبقيان يحرفان جميع الحلول عن مسارها الصحيح، مسببين بالفعل، أو بالتذرع، إعوجاجات حادة في ما يبذل من جهد للإصلاح.
المطالبة بإصلاح القطاع العام لم "تنزل" ولا مرة "عن رف" الشروط الداخلية والدولية للخروج من الأزمة. آخر هذه المحاولات أتى في اتفاق الإطار مع صندوق النقد الدولي. حيث شدد الأخير من ضمن الركائز الخمس لإعادة الاقتصاد إلى مسار النمو المستدام على: "إعادة صياغة المؤسسات المملوكة للدولة، وخاصة في قطاع الطاقة، لتقديم خدمات عالية الجودة دون استنزاف الموارد العامة". مطالباً بـ"الوصول إلى عجز أولي في الموازنة بنسبة 4 في المئة من إجمال الناتج المحلي(...). الأمر الذي يسمح بزيادة البدلات لموظفي القطاع العام لإعادة بدء عمل الإدارة العامة أو زيادة الإنفاق الاجتماعي".
"ثقل" القطاع العام
يقدر عدد الموظفين في القطاع العام بنحو 440 ألف موظف، 320 ألفاً في الخدمة الفعلية، و120 ألف متقاعد يستفيدون من التقديمات بشكل أو بآخر. وقد بلغت كلفة الرواتب والنقل في العام 2021 حوالى 12 ألف مليار ليرة، من أصل إيرادات لم تتجاوز 12900 مليار ليرة لغاية نهاية أيلول، بحسب آخر الأرقام التي يعلنها ملخص الأداء المالي الصادر عن وزارة المالية. وعليه فإن رواتب موظفي الدولة تمتص تقريباً كل ما تجبيه الأخيرة من ضرائب ورسوم وإيرادات، معظمها من القطاع الخاص.
ومع هذا فإن الأمور قد لا تبدو بهذه الخطورة باعتبار أن الايرادات المجباة في العام 2021 لا تعبر صراحة عن الرقم الحقيقي نتيجة ظروف الأزمة الداخلية والحجر الصحي. إلا أن الأمور تزداد سوداوية مع التقدير بأن تكون نسبة القطاع العام من حجم القوى العاملة النظامية قد ارتفعت من حدود 25 في المئة في أعوام ما قبل الأزمة إلى حدود 50 في المئة حالياً وذلك بالمقارنة مع حجم لا يتخطى 6 في المئة في اليابان على سبيل المثال.
وعلى الرغم من هذا الحجم الهائل للدولة تغيب على أرض الواقع الرقابة والتنظيم وتسود الاحتكارات. حيث يقدر أن يكون حجم الاقتصاد الموازي قد ارتفع من 30 في المئة في أعوام ما قبل الأزمة إلى حدود 50 في المئة اليوم. مع ما يعنيه ذلك من انعدام في دفع الضرائب والرسوم ومزاحمة القطاعات المنتجة والفعلية. كما بيّنت المؤشرات التي أصدرها البنك الدولي منتصف العام 2021 عن الحوكمة والإدارة الرشيدة أن لبنان صُنّف في المركز 184 عالمياً بين 209 دول على مؤشّر ضبط الفساد، وفي المرتبة 149 من حيث نوعية الأنظمة والقوانين التي تقيس مدى تماشي السياسات والقوانين مع اقتصاد السوق، وتعزُّز تنمية القطاع الخاص.
إعادة توجيه الموارد
أمام هذا الواقع لا عجب أن تكون أحد أهم متطلبات صندوق النقد الدولي "مكافحة ظاهرة الاقتصاد غير الشرعي، الآخذة بالتفشي والازدياد، وإعادة هيكلة القطاع العام"، بحسب رئيس تجمّع سيدات ورجال الأعمال اللبنانيين RDCL نيكولا أبو خاطر، "فانطلاقاً من قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، يستطيع الأخير إدارة مرافق الدولة بطريقة صحيحة، تحدّ من الهدر والفساد وتراكم الأعباء من جهة، وتقديم خدمة جيدة من الجهة الأخرى". وبحسب أبو خاطر فإن "قيمة القطاع العام اليوم متدنية جداً، بسبب انعدام الإنتاجية والهدر والفساد والخسائر السنوية التي تحققها. هذا عدا سوء الخدمة في الكهرباء وبقية الخدمات من اتصالات ونقل وترفيه وبنى تحتية... وغيرها الكثير".
بدلاً من أن يكون القطاع العام الذي يضم أكبر الشركات في لبنان مساعداً لميزانية الدولة، أصبح يثقلها بأعباء باهظة. وتكفي الإشارة فقط إلى تجاوز الخسائر في قطاع الطاقة وحده 40 مليار دولار، تشكل ضعف الناتج المحلي الإجمالي. وعليه فإن "الطرح الأساسي لعدم إغراق الاقتصاد بضرائب ورسوم لتعويض خسائر القطاع العام وتأمين رواتب موظفيه، والمساهمة بتحمل الخسائر التي تسبب بها فمن الأجدى ترك القطاع الخاص يدير هذه المؤسسات"، يقول أبو خاطر. و"الاستفادة من المداخيل المحققة لتغطية 3 أمور أساسية: وهي شبكة الأمان الاجتماعي، إعطاء حقوق الموظفين المتبقين الذين نحن بأمس الحاجة إليهم، والاستثمار بالبنى التحتية المهملة والتي لا مجال لنهضة الاقتصاد من دونها ومن دون تحميل الاقتصاد الشرعي والمواطن الصالح المزيد من الضرائب والأعباء".
قوتها بصغرها
على عكس الاعتقاد الشائع بأن تصغير حجم الدولة يُضعفها، ترى الباحثة الاقتصادية نور بو ملهب أنه "كلّما كبر حجم الدولة ضعف اقتصادها وتضاءل حجم الاقتصاد المنتج فيها". وعليه فإن حجر الأساس في أي خطة تعافٍ مستقبلية هو "الوصول إلى حجم قطاع عام متناسق مع القطاع الخاص المنتج، ومنسجم مع دور الدولة الحقيقي المنظم. وإلا سنبقى ندور في حلقة تلبية متطلبات الدولة المفرغة، الممولة من طباعة المصرف المركزي للنقود. وما تسببه هذه الإجراءات من تضخم، ومفاقمة المشكلة النقدية التي يعانيها أساساً الاقتصاد".
من هنا، فإن الأولية يجب أن تعطى اليوم من وجهة نظر بو ملهب إلى "تصغير حجم القطاع العام سواء كان على صعيد الإنفاق أو التوظيف أو حتى الضرائب والجمارك وبقية الرسوم. وهذه العملية الأساسية لمكافحة الفساد، لا تتم إلا من خلال فتح السوق أمام المنافسة العادلة وإتاحة الفرصة أمام الجميع للدخول والمساهمة في تقديم أفضل الخدمات بأحسن الأسعار من جهة، وتحمل المسؤولية من الجهة الأخرى. فالسوق هي التي تضبط في نهاية المطاف الأساليب غير الفعالة في الإدارة والإنتاج، وتُقصي المستثمرين الذين لا يلبون متطلبات الاقتصاد والمواطن. وذلك على عكس إدارة المشاريع وتقديم الخدمات من قبل الدولة التي تحمّل الخسائر للمواطن والأجيال القادمة من خلال تراكم الديون وزيادة الضرائب".
لكثرة الانحرافات في "سهل" الأزمة، "جبالها ووديانها"، ألفت العين "فجور" الدولة، ناقلة "للعقل" مهمة استوائها بالتوازي مع بقية "الأثلام" المعوجة. مسببة بذلك خطأ في المبدأ قبل أن يكون خطأ في الحساب. فالأولية يجب أن تعطى لترشيق القطاع العام ومعالجة مشكلة حجم الدولة قبل الانطلاق لمعالجة بقية المشاكل البنيوية.