إيفا أبي حيدر - الجمهورية
بعدما ذابت قيمة تعويضات نهاية الخدمة وراتب التقاعد نتيجة التضخم وحجز الودائع، فرضَ هيركات على أموال المودعين إمّا من خلال قيود السحب او لَيلَرة الودائع وتسعير الدولار بداية على 3900 ليرة ولاحقاً على 8000 ليرة، مع العلم ان دولار السوق الموازي وصل الى 35 الفاً، أتى الان دور رواتب الموظفين التي، الى جانب فرض الهيركات على قيمتها، لا يمكن سحبها كاملة. ومع ذلك لا يزال السياسيون يوعدون الناس بأنّ اموال صغار المودعين لن تمس بينما اتّضح انّ هؤلاء يدفعون الثمن.
تحوّل اقتصاد لبنان الى الكاش، ولكن الكاش مفقود. المصارف خفّضت سقف السحوبات الشهرية الى مليونين او 5 ملايين، وذلك بحسب وضع كل مصرف، حتى الراتب محجوز ولا يُقبض كاملا بينما سقوف الاموال الممكن استعمالها بواسطة الدفع بالبطاقات المصرفية فمفتوح نوعاً ما بحيث يمكن ان يتراوح بين 24 مليونا وحتى 50 مليونا، لكن الجهات التي تقبل بها كوسيلة دفع قليلة.
وبالتالي، كيف يمكن للبناني ان يعيش بمليونين أو 3 او حتى 5 ملايين ليرة، ما دامت فاتورة المولد وحدها توازي راتب موظف ويجب ان تدفع نقدا، ناهيك عن كلفة المحروقات الشهرية على الموظفين التي لن تقل عن مليونين و500 الف ليرة ويجب ان تدفع نقدا، وثمن الادوية الشهرية للمرضى يجب ان يُدفع نقدا ايضا، وشراء الخضار والفاكهة واللحوم يدفع نقدا، والتبضع من المتاجر (مكتبات، البسة، احذية، أدوات منزلية...) يدفع نقدا، كذلك المعاملات الرسمية، فاتورة الانترنت، شراء المياه، بعض القروض المصرفية وآخرها الاقساط المدرسية بعدما لجأت بعض المدارس الى فرض دفع الاقساط نقدا في المدرسة ووقفها في المصارف. في حين ينحصر استعمال البطاقات المصرفية في السوبرماركت حيث يدفع 50% فقط من الفاتورة بواسطة البطاقة، كذلك يمكن استعمالها لدفع فاتورة الهاتف الثابت او الخلوي «اونلاين».
واذا كان الهدف من تجفيف السيولة من السوق للحدّ من التضخّم والحفاظ على استقرار معين في سعر الصرف الا ان تداعيات هذه الاجراءات باتت قاتلة ومدمّرة لحياة اللبنانيين، أما اذا كان الهدف من السياسيات المالية المتّبعة خفض الاستهلاك فما يحصل راهنا هو سياسية إفقار وتجويع بالقوة مع ارتفاع معدل التضخم في لبنان خلال عام 2021 نحو 178%. واذا كان الهدف جَر الناس الى اخراج الدولارات من البيوت فلا بد من التشديد على ان هذه الاموال الموضوعة في المنازل هي اموال احتياط cash reserves، ليس الهدف صرفها لشراء الخضار او السلع الاستهلاكية او البنزين إنما لحالات الطوارئ مثل الدخول الى المستشفى، عمليات طارئة او شراء الادوية او هروب اضطراري...
إزاء هذا الواقع هل من سبل مُتاحة يمكن السير بها لتجنب هذه المخاطر وتحسين الوضع قليلا؟ وهل إيجاد حلول لمسألة البطاقات المصرفية بحيث تصبح مقبولة مجددا ويتضاءل الاعتماد على الكاش هو حل كاف لمجابهة هذه التحديات؟
في السياق، يقول الخبير الاقتصادي بيار الخوري ان ما يحصل اليوم هو إعادة تحميل أكلاف الأزمة الى اضعف فئة في المجتمع، فبعدما دفع المودع نصيبه من الهيركات خلال السنتين الماضيتين انتقل الدور اليوم الى الموظفين، هذا الموظف الذي خسر أكثر من 90% من قيمة أجره بالليرة اللبنانية ها هم اليوم يُقاسمونه على الـ10% المتبقية من خلال تحديد المصارف لسقوف على الراتب، بحيث يبقى قسم منه محتجزا لديها. ورأى ان فرض التأخر على سحب الراتب يعرّض الموظف لخطرين: الاول: التضخم المستقبلي على قيمة العملة بدليل الفارق الموجود اليوم ما بين سعر منصة صيرفة الذي على اساسه يقبض الموظف راتبه وسعر الصرف في السوق السوداء والذي يتراوح ما بين 20 الى 25%.
الثاني: تَعرّض الموظف لدى سحب الراتب الى هيركات، حتى في السوبرماركت عندما يقرر اصحابها قبول 50% من الفاتورة بواسطة البطاقة المصرفية فقط وطلب 50% المتبقية كاش فهذا يعني ان لا عازَة لنصف الاموال المطلوبة. أما المحلات التجارية التي تبيع سلعا معمرة فتفرض هيركات 25% لدى قبول الدفع بواسطة الكارت، وهذا ما يحصل أيضاً مع الصرّافين الذين يشترون شيكات مصرفية يحسمون 25% من قيمتها بما يعني انه شئنا ام ابينا فُرض علينا هيركات بنسبة 25% على الاجور والرواتب. وأكد الخوري ان ظاهرة الهيركات على الاجور هي ظاهرة استثنائية في لبنان وغير موجودة في العالم.
وذكر الخوري ان الهيركات فُرض اولاً على الودائع حيث كانت الاموال الموجودة في البطاقات المصرفية اقل من قيمتها، واليوم وبعد سنتين ونصف على الأزمة المالية الهيركات نفسه بات يطبّق على الرواتب والاجور. وقال: حتى يتمكّن مصرف لبنان من الاستمرار بتثبيت سعر الصرف بالحد الادنى (طالما هناك فارق بين سعر الدولار في السوق السوداء وسعر صيرفة فهذا يعني ان الدولار غير مثبت) هو بحاجة الى سحب كل قرش لبناني يتداول به في السوق، والسيولة الوحيدة المتاحة اليوم هي اموال الاجور.
اضاف: صحيح ان مصرف لبنان أصدر قرارا خاصا يطلب فيه من المصارف دفع الرواتب كاملة لموظفي القطاع العام الا ان المصارف لم تلتزم به. اما المشكلة الاكبر فتكمن في رواتب القطاع الخاص لأن قيمتها أكبر من رواتب القطاع العام الّا ان المصارف ارتأت فرض هيركات 50% على الرواتب من تلقاء نفسها محددة سقفاً يتراوح ما بين 4 او 5 ملايين ليرة شهريا فقط. فمَن يكفيه هذا المبلغ ليعيش بالحد الادنى شهريا؟
وردا على سؤال، قال الخوري ان المشكلة باتت كبيرة جدا والمطلوب اليوم السير بحل كامل متكامل للأزمة، وإلّا نحن نتجه نحو الدولرة الشاملة بحيث تصبح الليرة اللبنانية غير مقبولة من أحد.