النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
يعلّمنا التاريخ أنّ الدول الصغيرة والشعوب الضعيفة، غالباً ما تكون حقول تجارب ومختبرات شيطانية للقوى العظمى التي تحضّر للكوارث والمذابح البشرية، أو تتوقعها فتحرّض عليها، ثم تؤلّف بعد ذلك الجمعيات الخيرية وطوابير الإغاثة الإنسانية كذباً على الله وتمويهًا على الانسانية، على أن تكون قبل ذلك قد أعدّت عُدّة استثماراتها تنقيباً عن نفط وتسييلاً لغاز، أو وضع يد على نقاط استراتيجية. أفدح الأمثال ما نراه الآن من الغزو الروسي لأوكرانيا، ومن مقاومة الشعب الذي سيدفع كثيراً، فيما الحلفاء الافتراضيون يتابعون تقلبات الأسعار العالمية، والغلاء الذي يعمّ الكون، ويحصون أرقامهم في المصارف التي تتكاثر بتكاثر الدم السائل والبنيان الزائل.
ومن تلك الاختبارات نظريّة الفوضى الخلاقة التي زفّتها إلينا كوندوليسا رايس، بحيث لم يزل الشرق الاوسط يعيشها فصولاً في مسلسل لا ينتهي.
ولأنّ لبنان جسم فائق الحساسية فإنه أول من يتأثر بالتقلبات ومظاهر الفوضى ولو بدأت من أوقيانيا، فكيف وهي ترتع في فلسطين والعراق وسوريا، وفي الخليج من خلال المسيرات البدائية التي تعجز عن رصدها أحدث الرادارات وأبهظها ثمناً، بل إنّ الجسم اللبناني قد ربيت سياسته على أنه ما أن تنبئه النشرة الجوية بتشكّل إعصار في مكان ما، حتى تصبح أبوابه شُرَّعاً، ونوافذه خُلَّعاً وإعلامه مخدعاً لاستضافة الزوبعة واستقبال الكارثة.
أكتفي في هذه المقالة بالحديث عن بعض مظاهر الفوضى التي تهيمن علينا والتي فاقت كل حدّ، وقد أخذ بي الأسى، لأنها مظاهر متفاقمة لا يقاومها مقاوم ولا يزجرها زاجر، ولا يكفّ عنها فاجر.
الفوضى الانتخابية مردّها قانون جمع سيئات القوانين الانتخابية في العالم واستثنى حسناتها، وراح يلحّ علينا بمواعيدها القربية، فصرنا حيال استحقاق قلق ومقلق في آن، فهو بحجة النسبيّة يذهب إلى أحط انواع الفردية، وتحت راية الانتماء السياسي، ينتمي إلى صغائر الدكاكينية، وهو مقلق للأطراف الذين أدمنوا قراءة الكف واستطلاع النجوم وسؤال أهل العرافة من شركات الاستبيان، فلا تطمئنهم الأرقام ولا تبشرهم النجوم بفأل حسن، فيلجأون إلى محاولة يائسة للتعطيل لاستبعاد الكأس المرة ولو لبرهة من الزمن، بل حتى شباب الثورة يتراشقون اليوم بأقذع مما يفعله عواجز النظام.
ومن تلك المظاهر أنّ استنكاف الرئيس سعد الحريري المحزن استتبعته استنكافات خطيرة، حق عليها تطبيق قانون العقوبات عن تسييب الأولاد كما أشرت في المقال السابقة.
وثالثة الأثافي في مظاهر الفوضى، تلك العشوائية القضائية التي تخطت الكيد السياسي إلى الفضيحة الوطنية بحيث بات أهل القانون يشبهون أهل كييف فكلاهما يعيشان هلع تساقط القنابل العنقودية فوق الرؤس، والعامل المشترك ان القاصفين البارود والقرارات القضائية، يطلقون بلاويهم من مدافع ومواقع هي خارج الاختصاص المكاني والنوعي والأخلاقي، وما ألحّ علي هذا التشببه إلا لأني أشاهد النشرات المتلفزة، فتختلط مأساة أهل كييف بمأساة معاناة الإجراءات الكيفية.... فكيف الخروج؟