نقولا ناصيف - الأخبار
يوماً بعد آخر يتأكّد حصول انتخابات أيار في موعدها. يوحي الأفرقاء بأنهم يذهبون إليها بحماسة، لكنهم ينتظرون ما قد يحدث لتأجيلها. بعد الصدمة السنّية الأخيرة، لم يعد في وسع أي فريق، ما خلا الثنائي الشيعي، الثبات على حساباته وتوقعاته وأوهامه
مذ أُقر في مجلس النواب في 3 تشرين الثاني المنصرم، يعيش قانون الانتخاب النافذ مشكلة بعد أخرى. أولاها كان الاشتباك من حول المادة 57 من الدستور، ثم الصراع على النصاب وتصويت الاغتراب، ثم موعد إجراء الانتخابات النيابية في 15 آذار أو 15 أيار. بعد ذلك أتى دور المجلس الدستوري ثم اختفى. حكي عن العوز والحاجة إلى مال الانتخابات، إلى أن انتهى المطاف الآن بالتريث والتباطؤ الذي يرافق الترشح.
قبل أسبوع واحد فقط من إقفال باب الترشيح في 15 آذار، لا يزال عدد المرشحين أقل من 150، وسجل البارحة الرقم 117، بينما بلغ عددهم لانتخابات 2018 حتى إقفال باب الترشيح 917 مرشحاً، نجح منهم 597 مرشحاً في حجز مقاعد لهم في اللوائح الـ77 التي خاضت الانتخابات تلك. أكبرها تسع لوائح في دائرة بيروت الثانية، وأصغرها لائحتان في دائرة الزهراني - صور.
المهل القانونية التي بدأت رحبة وطويلة مذ افتتاحها بمرسوم دعوة الهيئات الناخبة في 29 كانون الأول، تضيق تدريجاً. آخرها في 4 نيسان موعد إقفال اللوائح الانتخابية نهائياً. تبعاً للقانون المعدل، يُحدّد موعد دعوة الهيئات الناخبة قبل 90 يوماً من إجراء الانتخابات. وقّع رئيس الجمهورية ميشال عون المرسوم الحالي في 29 كانون الأول الفائت، بعدما تأكد من أن إجراء الانتخابات في 15 أيار وليس في 15 آذار، مستخدماً مهلة قانونية زادت على أربعة أشهر مما اشترطه القانون. كان فعل الأمر نفسه في انتخابات 2018، عندما أصدر مرسوم دعوة الهيئات الناخبة في 22 كانون الثاني 2018، قبل أربعة أشهر من موعد الانتخابات عامذاك في 6 أيار. لا يحدد القانون موعد تقديم طلبات الترشيح، بيد أنه يحدد موعد إقفالها قبل شهرين من فتح صناديق الاقتراع.
بذلك فُهِمت إحدى أحاجي القانون الحالي للانتخاب: ليس عدد المرشحين، كما في نظام التصويت الأكثري واللوائح المفتوحة في القوانين السابقة، هو المعوَّل عليه. بل ما تنتهي إليه لائحة اللوائح المقفلة ومَن أصبح داخلها.
لم يعد لطول المهل القانونية المهيئة للانتخابات النيابية أو قصرها، أي دلالة تفسّر مغزى التباطؤ في تقديم طلبات الترشح، سوى أن المشكلة تكمن الآن في الكتل والأحزاب الرئيسية التي تخوض الانتخابات. لا تريد حصولها، ولا يسعها أن تفصح عن ذلك، وفي الوقت نفسه تستعد للانخراط فيها كأنها واقعة غداً، وتتهيّب المفاجأة.
شأن كل انتخابات نيابية تسبق انتخابات رئاسية، كأعوام 1947 و1957 و1968، يصبح ارتباط الأولى بالثانية حتمياً، ومعبراً وحيداً إليها، من غير أن يفضي ذلك إلى الاقتناع بأن المجلس الذي يصوّت هو الذي يقرر الرئيس المقبل. ما خلا استثناءً واحداً عام 1996 يوم لم يشعر اللبنانيون بمثل هذا الانتقال الموضوع حينذاك بين أيدي السوريين وحدهم، اتّسمت كل انتخابات نيابية تجري في ولاية لرئيس للجمهورية، أي رئيس، موشكة على الأفول بطابع مناقض لذاك الذي رافق إجراءها في مطلع الولاية. الاعتقاد الشائع بين تزامن انتخابات نيابية وأخرى رئاسية يدور حكماً من حول الغالبية النيابية التي ستذهب إلى الاستحقاق التالي. هو، في الواقع، لبّ المشكلة الحالية التي تجعل الأفرقاء جميعاً، على رأس كتلهم القوية، مذعورين سلفاً من انتخابات، من غير المؤكد لهم جميعاً - ربما باستثناء الثنائي الشيعي بفعل فائض قوته - أن حساباتهم حيال نتائجها دقيقة ومحسوبة.
مكمن المشكلة يقع في عوامل أساسية منها:
1 - أن أياً من الأفرقاء، تيارات وأحزاباً ومذاهب، بما فيها الثنائي الشيعي، ليس يتوهم أنه قادر، وحده أو مع حلفائه أياً كان هؤلاء، في انتخابات أيار المقبل على الوصول إلى النصاب الموصوف لانعقاد جلسة انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، وهو 86 نائباً. نصاب كهذا لم يسبق أن حازه فريق سياسي واحد سوى «النهج» بعد الانتخابات النيابية عام 1964، عشية رفض الرئيس فؤاد شهاب تجديد ولايته، بأن اجتمع 79 نائباً من 99 من حول هذا الخيار. لا كتلة سبقته أو تلته وصلت إلى مثل هذا الحجم من الاستقطاب السياسي. طبعاً يُقتضى أن تستثنى هنا الحقبة السورية التي فرضت رئيسين على التوالي كما تمديد ولايتيهما بالنصاب الموصوف نفسه. بقية الاستحقاقات المماثلة، غالباً ما دار الصراع على أكثرية نيابية مؤسِّسة قبل أن تذهب لاحقاً إما إلى تحالفات جديدة، أو إلى تسويات تسبق انتخاب الرئيس الجديد.
2 - أكثر مَن يبدو معنياً بحاجته إلى الأكثرية اليوم هو نفسه الفريق الذي يمسك بها، وهو الثنائي الشيعي. بعد تفرّق قوى 14 آذار وتبخّرها، تمكّن حزب الله من المحافظة على الفريق الذي يقوده في 8 آذار، واحتفاظه تالياً بالغالبية النيابية. هي الآن بين يديه تساوي 71 نائباً. ما يسهل عليه الوصول إليه مع شركائه، مسيحيين ودروزاً وسنّة، هو الإمساك بالغالبية العادية، 65 نائباً، حداً أدنى. يسهل عليه كذلك رفع العدد إلى 71 نائباً. أكثرية كهذه تمكنه من منع التئام البرلمان لانتخاب رئيس لا يرضى به. رقم كهذا يتجاوز الثلث المعطل لانتخاب الرئيس الجديد (44/86 نائباً).
3 - ما يُفترض أنه يبعث على ارتياح الثنائي الشيعي، وخصوصاً حزب الله، افتقاره للمرة الأولى إلى خصم جدي. يسرّه أن انتخابات أيار بلا أي شعار أو قضية. في انتخابات 2005 التي أربكته وحملته على ارتكاب التحالف الرباعي، أقلقته تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري على أنه عنوان «قضية» ذلك الاستحقاق، فذهبت الغالبية النيابية إلى قوى 14 آذار. في انتخابات 2009 بعدما خذل نفسه عندما توقع أنه سيفوز بالغالبية النيابية، واجه شعاراً مكمّلاً للسابق على أنه في ذاته «قضية» عنوانها المحكمة الدولية واتهامه باغتيال الحريري، ففقد رهان الوصول إلى الغالبية تلك. منذ اتفاق الدوحة عام 2008 ليس ثمة شعار أو قضية لأي انتخابات، بما فيها الوجبة الدسمة والمغذية وهي سلاح حزب الله.
في انتخابات أيار يريح الحزب سلفاً أنها انتخابات بلا قضية تسعّر الاحتدام المذهبي كتجربتي 2005 و2009. لكنها أيضاً بلا منافس سنّي في الغالب يقيم التوازن السياسي والمذهبي في قيادة الانتخابات. ربما يصح القول إن اعتزال الرئيس سعد الحريري، الخصم الودود، خسّره حاجته إلى التوازن المتكافئ مذهبياً فحسب. لكن المجدي أن اعتزالاً كهذا ليس الثنائي الشيعي وحده المتأثر به، بل أيضاً حلفاء الحريري الذين عوّلوا عليه لتبرير اندفاعهم في خوضهم العلني المواجهة مع حزب الله وسلاحه.