انطوان فرح - الجمهورية
يوماً بعد يوم، يتظهّر عُمق التداعيات التي ستخلّفها الحرب في أوكرانيا، على كل اقتصاديات الدول، وعلى الأمن الغذائي، وعلى مستويات النمو والمعيشة. ويبدو انّ التداعيات على الوضع اللبناني ستكون أقسى، بسبب نقاط ضعف غير موجودة لدى دول أخرى.
قبل ان تبدأ الحرب ببضعة ايام، وكان معروفاً انّ احتمال اندلاعها صار مُرجّحاً، طالعتنا وزارة الاقتصاد بأن لا داعي للهلع، لأنّ الوزارة أعدّت خطة (A) وخطة (B) وخطة (C). والحديث هنا عن القمح حصراً. ليتبيّن بعد اندلاع الحرب، أن لا وجود لخطط حقيقية، وكل ما قيل عراضات اعلامية للادّعاء انّ الوزراة تعمل وتستعد وتعرف ماذا يجري حولها. أما وزارة الطاقة، وهي المعنية بالشق الأساسي المتعلق بالمحروقات، فكانت أصدق مع نفسها ومع الناس: لا خطة ولا من يخطّطون، وعندما نصل اليها نصلّي عليها. وهكذا صار وصلنا اليها، ومشهد الطوابير عاد بقوة رغم كل التطمينات.
في كل الأحوال، التحضير لمواجهة تداعيات حرب، بحجم الحرب في أوروبا، ليست مسؤولة عنه وزارة بعينها، بل الحكومة مجتمعة، ومعها مجلس النواب الذي يملك حق وواجب الحثّ والرقابة والمتابعة والمساءلة.
بصرف النظر عن مشهد اللادولة، لماذا قد تكون التداعيات عندنا اكثر خطورة من دول أخرى، وما هي مكامن هذه المخاطر؟
من سوء حظ اللبناني انّ الحرب اندلعت في توقيت أكثر من حساس بالنسبة الى الوضع المالي في الداخل، وضمن المعطيات التالية:
اولاً- دولة مفلسة توقفت عن دفع ديونها، وهي تنفق من اموال الناس بالكامل منذ نهاية العام 2019. وقد أهدرت حتى الآن حوالى 20 مليار دولار، من دون ان تتمكّن من تثبيت ولو خطوة واحدة في مسار المعالجة للخروج من هذا الوضع.
ثانياً- مع اقتراب الانتخابات النيابية، وبعدما وصل سعر صرف الدولار الى 33 الف ليرة، وكان مقدّراً له أن يواصل الارتفاع، ومع اهتزاز الأمن الاجتماعي وتحرّك الشارع، لجأت الحكومة، وبقرار منفرد من رئيسها، الى العودة الى دعم الليرة. وهذا يعني كسر قرار التوقّف عن الإنفاق من الاحتياطي المتبقي، وهو القرار الذي كان بدأ ينفّذه مصرف لبنان من خلال وقف القسم الأكبر من دعم السلع والخدمات، والاكتفاء بالدعم القادر على تأمينه من دولارات السوق فقط.
ثالثاً- لم يعد واضحاً اليوم ما هو حجم الاحتياطي المتبقّي في مصرف لبنان، خصوصاً انّه يتمّ اعتماد اسلوب تأجيل دفع الفواتير، بما يعني انّ المبلغ الحقيقي المتبقّي، إذا ما تمّ تسديد الفواتير، أقل بكثير من المبلغ المُصرّح عنه رسمياً من قِبل المصرف.
رابعاً- ليس معروفاً حجم الخسائر التي يتكبّدها المركزي جراء دعم الليرة، لكن ما هو مؤكّد انّ هذه الخسائر سترتفع بسبب تداعيات الحرب، بحيث انّ الكلفة ستصبح أكبر لاستيراد كل السلع، وفي مقدّمها المحروقات للقطاع العام وللقطاع الخاص، لأنّ الليرة باتت مدعومة، ويتمّ شراء الدولار بسعر اصطناعي.
هذه الحقائق تقود الى استنتاج انّ البلد امام مشهد جديد اشدّ سوداوية من المشهد المأساوي القائم منذ اعلان الإفلاس في آذار 2020. وسيكون الضغط كبيراً على ما تبقّى من دولارات في المركزي. والانتخابات تحول دون اتخاذ قرارات عقلانية في مواجهة هذه الكارثة، وبالتالي، من المرجّح ان يتمّ اعتماد الإجراءات الأسهل، ولكن الأكثر كلفة في المرحلة المقبلة. وليس مستبعداً ان نكون اقتربنا من مشاهد الفقر المزمن. إذ انّ المشكلة، على سبيل المثال لا الحصر، ليست في فقدان القمح، بل في مصدر الدولارات لشرائه بسعر مرتفع. وكذلك المحروقات، وكل السلع الغذائية الأخرى.
وبالتالي، قد نكون اقتربنا من مشهد رغيف الجمعية ورغيف الميسورين. بمعنى، انّ الدعم الذي ستعجز الدولة عن تأمينه، قد يضطرها الى استيراد نوعية قمح سيئة ورخيصة. وبالمقابل، سيستورد القطاع الخاص كميات صغيرة من القمح الجيد غير المدعوم، بحيث يصبح رغيف الجمعية ذو النوعية السيئة، وغير الموضّب في أكياس من نصيب المواطنين الفقراء، وهم اكثرية ساحقة، والرغيف الجيد من نصيب الميسورين. وقد ينسحب ذلك على مواد غذائية أخرى. وهذا الامر قائم في دول كثيرة كانت تعاني الفقر، بحيث يوجد خبز «اسود» مدعوم للفقراء، وخبز «ابيض» للميسورين.
انّه لبنان الجديد الذي نتجّه نحوه بخطى ثابتة، بفضل التخطيط المميز الذي تتّبعه السلطة. ومن البديهي، انّ السؤال بعد ذلك عن خطة الإنقاذ، ومصير الودائع، ومصير الناس، يصبح في غير محله.