المصدر: الجمهورية
جورج شاهين
أقفل الأسبوع المنصرم على بداية ظهور الترددات التي تركتها زيارة وفدي صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الاميركية لبيروت تزامناً مع حراك ديبلوماسي غير مسبوق. وهو ما طرح أسئلة عما اذا كان التزامن في ما بينها بالمصادفة، ام ان كثافة الملفات المطروحة وأهميتها جاءت بهما معاً. وأياً كانت النتائج المترتبة عليها فقد أوحت هذه الحركة أن لبنان ما زال على الخريطة الدولية على رغم انشغال العالم بالأزمات الكبرى. وعليه، ما هو نصيب لبنان منها وكيف يمكن استغلالها؟
قبل البحث في نتائج الحركة الديبلوماسية والأممية وفي توقيتها ومضمونها وما لقيته من اهتمام، توجّهت الانظار الى تَقصّي جملة الملاحظات والانتقادات التي حملتها الى المسؤولين اللبنانيين والتحذيرات ممّا هو آت اذا بقيَ الأداء اللبناني على تردده في خوض غمار الإصلاحات البنيوية والإجراءات المطلوبة في كثير من القطاعات الحيوية التي تقضّ مضاجع اللبنانيين. وتلك التي تخضع للمعاينة الطارئة نتيجة انعكاساتها السلبية على مختلف وجوه حياتهم ومعهم المقيمون على الأراضي اللبنانية.
ففي الوقت الذي دخلت البلاد مدار المهل القانونية الحاسمة الخاصة باستحقاق الانتخابات النيابية على ابواب المرحلة الأولى المتعلقة بإقفال باب الترشيحات في 15 آذار الجاري، فقد بلغت الحركة الديبلوماسية الغربية والشرقية الذروة في غياب لافت وغامض لا تفسير له للحراك العربي شبه المفقود. وعلى وَقع سلسلة الأزمات التي تفاقمت في ظل العجز الحكومي عن مقاربة أي منها وخصوصا في مجال الخدمات العامة كما في قطاعات الطاقة والمحروقات والادوية والقمح وارتفاع أسعارها الجنوني عدا عن ندرتها، وغيرها من وجوه معاناة القطاع العام، شهدت وزارة الخارجية «غزوات ديبلوماسية» متلاحقة في سباق محموم بين محورين، أحدهما يسعى الى تبرير ما يسميه «العملية الروسية الخاصة» الجارية لمعاقبة القيادة الاوكرانية، وآخر يسعى الى اظهار مخاطر ما يسمّيه «الغزو الروسي» وتداعياته على دول الجوار الاوروبي ومنطقة الشرق الاوسط والعالم في موقف لم تشهده الوزارة من قبل. وهو ما دفع الى الاعتقاد انّ موقف لبنان مفصلي يمكن ان يغير في المشهد الدولي الجديد الذي أظهرته العمليات العسكرية في شرق أوروبا.
والى هذه «الطحشة» الدولية اللافتة أحضَرت السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا الى المقار الرسمية التقرير الذي أعدّه رئيس الوفد الاميركي الى مفاوضات الناقورة عاموس هوكشتاين ترجمةً لوعدٍ قطعه لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون بأن ينقل إليه مضمون العروض الشفهية التي قدمها أثناء زيارته الاخيرة للبنان في تشرين الثاني الماضي في شأن عملية الترسيم البحري، وهو ما فرضَ على المسؤولين المكلفين ادارة هذا الملف إعطاء أجوبة واضحة على ما هو مقترح قبل ان يقرر الموفد الاميركي العودة الى لبنان لاستئناف البحث في أي شكل من الأشكال واقتسام الثروة في المنطقة المتنازَع عليها بين لبنان واسرائيل على الورق، بما فيها حدود حقل قانا الممتد في عمق البلوك 72 الذي تمتلكه إسرائيل وكاريش الذي يهدد البلوك الرقم 9 اللبناني.
مما لا شك فيه انّ هذا الحراك الدولي والأميركي والاوروبي أعاد الحيوية الى الساحة السياسية وعبَر ما فيه الكفاية عن الرعاية الدولية لما يجري في لبنان في مواجهة أزماته المتناسلة.
وهو ما يؤكد انّ هذه العناية لم تغب عن لبنان على رغم من حجم الأزمات الدولية من اوكرانيا الى اليمن وما بينهما محادثات فيينا في شأن الملف النووي الإيراني والحوار السعودي - الايراني. وهو ما أربك المسؤولين اللبنانيين العاجزين عن مواجهة بعض المشكلات الداخلية في ظل الخلافات التي تعصف بالحكومة وحجم المناكفات القائمة على خلفية نصب المكائد المتبادلة بين رؤساء السلطات واستخدام المؤسسات التابعة لكل منهم في مواجهات متنقلة من موقع الى آخر بطريقة غير مسبوقة. وليس أخطرها تلك التي تعصف بالقضاء الذي كان حتى الامس القريب محتفظاً بالحد الادنى من تضامن هيئاته القيادية. كما بالعلاقة التي اهتزّت بنحو خطير بين جزء من هذا القضاء وقادة الاجهزة الامنية وحاكمية مصرف لبنان.
وفي ظل الضبابية التي تكتنف هذا المشهد السوريالي الذي لا يكتسب اي تفسير قانوني او دستوري، باتت المنظومة السياسية بكاملها امام جملة استحقاقات تعبّر عن حجم المخاطر المقدرة في شأن الملفات الكبرى المطروحة تزامناً مع الإستحقاق المقبل بحجم الانتخابات النيابية وما سيليها من استحقاقات حكومية ورئاسية، ان لم تلملم أطرافها وتعيد النظر في أدائها قبل انفلات الأمور الى مرحلة لا يستطيع احد إدارتها وصولاً الى الإفلات من السيطرة عليها.
وعليه، طرحت الاسئلة في عدد من الاندية الديبلوماسية حول سبل مواجهة ما هو مطروح من قضايا تتصل بالمسؤوليات الحكومية والادارية والحياتية وما له ارتباط بالخارج. واكتسبت الزيارات التي قامت بها الوفود الخارجية من صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الاميركية أهمية بالغة الدقة، وأكثرها بادٍ من خلال ما أعطته من إشارات بضرورة البَت بعدد من القضايا الخلافية المتعلقة بمصير قطاع الطاقة والموازنة العامة ومكافحة الفساد واستغلال السلطة والإصلاحات البنيوية والمالية التي تُطاول مصرف لبنان والقطاع المصرفي توصّلاً الى خطة التعافي الإقتصادي والمالي وسبل مواجهة التهرب الضريبي ووقف استغلال القطاع المصرفي من اجل دعم الارهاب وتبييض الاموال.
وإن وصلَ الامر الى رسالة هوكشتاين وما أراده منها، فقد بات مطلوباً من رئيس الجمهورية الذي يصرّ على التمسك بمضمون المادة 52 من الدستور التي تفوّضه بالتعاطي مع المفاوضات والمعاهدات الدولية ان يقول كلمة الفصل فيها في وقت قريب إن صحّت المعلومات من انّ صاحب الرسالة يريد جواباً عاجلاً ليستأنف مهمته قبل نهاية الشهر الجاري. وما هو ثابت حتى اليوم انّ عون لا يمكنه خوض غمار هذا الملف حتى النهاية المرجوّة من دون التفاهم مع بقية المكونات السياسية والدستورية على مستوى السلطتين التشريعية والتنفيذية على الاقل، ما عدا ما لدى قوى الأمر الواقع من تأثير انسجاماً مع موقف «حزب الله» الذي قد يطيح ما أنجزه المسؤولون على هذا الصعيد إن خرج من موقعه «خلف الحكومة» في ما تقرره في شأن عملية الترسيم وإبقاء ثروته مدفونة الى اجل غير مسمّى.
وبناء على ما تقدم، يبدو من الصعب على المسؤولين مواجهة هذه الازمات دفعة واحدة، وانّ فقدان القدرة على معالجة ما هو ملحّ وطارئ منها يؤدي تلقائياً الى انتظار الأيام المقبلة التي ستأتي بمزيد من التعقيدات التي تُربك المسؤولين وتزيد من حدة الأزمات التي نشهدها. وأخطر ما يوحي بذلك انّ هناك من يعتقد انّ في قدرته استغلال كل هذه المراحل لعقد صفقات جانبية قصيرة وبعيدة المدى لتحسين صورته وتقوية موقعه وتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه في السنوات الماضية. والأمر لا ينسحب على فريق رئيس الجمهورية كما يعتقد البعض فحسب، فالجميع في مأزق سواء اعترفوا بذلك ام انهم ما زالوا يكابرون.