النقيب السابق للمحامين في طرابلس الوزير السابق رشيد درباس
شهر شباط هو موسم الهجرة العالي، وفقاً للمفهوم المتوارث، وهذا الشباط باهظ التكلفة على ما أرى، فقد تزاحمت فيه قوائم الراحلين، وامتلأت فنادق القبور بالنزلاء، حتى بات كثير من الأحياء يشترون أمتار آخرتهم وهم في تمام الصحة، خشية التشرد بعد الموت.
رحل عنا بالأمس من ترى آثاره ولا يرى، أخونا وعرّابنا حسن عيسى الذي أخذ بأيدينا عندما كانت خطواتنا تتعثر في طريق المستقبل.
وودعت الميناء الطبيبة الدكتورة غريتا بندلي، التي لها لمساتها الشافية على مريضاتها ولها أيضاً على طلاب مار الياس، وأنا منهم فضل تعليمنا دروس البيولوجيا بفرنسية مبسّطة ومقرّبة للأفهام.
وكذلك تخلَّى عن موقعه المرموق في السياسية والشجاعة والمحاماة والصداقة الزميل الأخ فؤاد شبقلو الذي طبع بصمته على الحياة السياسية طوال مرحلة صعبة، فبقي صامداً، وظلّ مثابراً على كتابة تقريره السنوي يرفعه إلى كمال جنبلاط في ذكرى استشهاده، وربما هما الآن يتناجيان عن أحوال فلسطين ولبنان.
وإنني لم أكن لأقصّر في واجب تقديم جزيل الاحترام وصادق العزاء للسيدة الجليلة والصديقة الراقية رباب الصدر بخسارة شريك عمرها العلاّمة السيد حسين شرف الدين، لولا أن الأهل آثروا عدم النشر حتى لا يجشموا قادري فضل الراحل مشقّة التقاطر والتزاحم في مجلس العزاء.
استذكر الآن، اللحظة التي زارتني فيها السيدة رباب في وزارة الشؤون الاجتماعية، فما كانت إلا برهةً واحدة حتى اكتشفت مساحة العطاء والحنان والعناية والجديّة في مؤسسات الإمام الصدر التي تتولاها بالرعاية؛ بعدها كم أصابني الحرج والخجل، إذ ما تحدثت في ندوة أو مناسبة إلا وكانت أولى الحاضرين، فطوّقت عنقي بمودّتها وجميلها، إضافة إلى تقديري العالي للعمل الجليل الذي تقوم به؛ أما اليوم الذي لا أنساه فهو تشريفي بزيارة السيد حسين شخصياً لي، حاملاً معه سنيَّ عمر مديد من الخبرة والمعرفة والدماثة، ومجموعة مؤلفاته التي رصّعت مكتبتي ومعرفتي؛ قبل ذلك عرفت رائداً وقصياً، وكلاهما من ثمار أرومتيْ الخير، أولهما الخبير المالي والاقتصادي والنائب الاول لحاكم مصرف لبنان فترة من الزمن، وهو على نسق أبيه وأمه وخاله، من أهل الفكر والتراحم، أما قصيّ فقد وضع الإرث الصدري والجعفري في خدمة الصليب الأحمر.
منذ مدة، زار الدكتور رائد طرابلس، وخصّني بمروره على منزلي، حاملاً إلي كتاباً للراحل العزيز بعنوان "صور في عيني" هو الجزء الثالث من سلسلة " صور العاصرة تاريخنا"، فما أطيب ذلك العصير، الذي أنتقي منه لخاتمة هذا الناقوس دقات عروبته إذ يقول:
"الجلسات العائلية كانت أشبه بمدرسة تثقيف تتحلّق العائلة حول الشاي عصراً، ومن حق كل فرد كبيراً أو صغير حضورها، وكان على رأس المجلس كبيرها السيد عبد الحسين شرف الدين (مرجع الطائفة الشيعية في لبنان) وتتنوّع الأحاديث حول تاريخ الأدب واللغة وفقهها، وكانت للحركة العربية وموضوع الدولة العربية السورية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين ودعم جبل عامل لقيامها المساحة الكبرى في الجلسات."
لم يرَ الراحل السيد حسين إيمانه الديني وانتماءه للمذهب الجعفري إلا من صلب عروبته، ولذلك انتمى إلى البعث الذي اسسه مسيحي هو ميشال عفلق الذي قال:
"العروبة جسم روحه الإسلام"
استسمح القرّاء، ولكن لنا في ذكر الراحلين حياة.