لعل أغلب السوريين يعرفون أن النهاية التي شهدتها أمس بلبلة تصريحات الفنان السوري عباس النوري منطقية تماماً لأي حادثة مشابهة لمن يعيش داخل سوريا.
فاعتذار النوري الذي جاء أمس ليس غريباً، والسوريون خصوصاً يعلمون أن رسالة أوصلتها سلطات النظام للفنان نفذت بحذافيرها فخرج من نفس المنبر معتذراً منكسراً، وذلك وفقاً لتعليقات شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي على الحادثة خلال الساعات الماضية.
الحكاية بدأت من لقاء إذاعي أجراه نجم مسلسل "باب الحارة" الشهير، عباس النوري انتقد فيه وضع الاقتصاد في سوريا وصعوبات الحياة، والحزب الحاكم والسياسات الخارجية، موجهاً اتهاماً مباشراً للسلطات ودورها، كذلك نبش حوادث من الماضي البعيد، لينهال عليه غضب "الشبيحة"، وهو مصطلح معروف بين السوريين ويطلق على البلطجية من أتباع النظام.
وعلى الرغم من حملة التضامن الواسعة التي شهدتها الأوساط السورية مع الفنان، إلا أنها لم تشفع لها أبداًَ، فخرج ليل الأحد عبر منبر نفس الإذاعة التي سبق لها وأن حذفت مقابلته "الجريئة"، ليعتذر من قوات النظام، ويؤكد أن كلامه اجتزئ وخرج عن سياقه.
ولعل كل السوريين يعلمون أن موقف النوري واضح، وأن تهديدات صريحة وصلته دفعته ليطبق مثلاً شعبياً يطبقه السوريون من أكثر من 50 عاماً، مفاده باللهجة العامية "بعيد عن الشر وغنيلو".
فخرج النوري حزيناً يعتذر من قوات النظام، زاعماً أنه لم يكن يعنيها حينما تحدث عن أن حكم العسكر هو السبب في تردي الأوضاع السياسية في سوريا وما وصلت إليه على كافة الصعد.
وبصوت مهزوز، أكد أنه ليس بطلاً ولا صاحب مشروع سياسي، بل صاحب مشروع ثقافي، مضيفاً أنه يتمنى أن يصل إلى وطنية الجندي المرابط على جبهة إدلب، وذلك في محاولة لاسترضاء النظام وسلطاته.
جاء ذلك بعدما انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تهديدات مباشرة للفنان من صفحات موالية للأسد ونظامه، في حين أفادت تعليقات أخرى، بأن اتصالا هاتفيا قد أنهى الأمر، في إشارة منهم إلى أن مخابرات النظام تدخلت.
وأضاف آخرون أن التصريحات الجريئة كانت "نزوة من الفنان لا أكثر ويجب إصلاحها مع النظام"، قائلين باللهجة السورية: "مفكر حالو بباب الحارة!!"، في إشارة منهم إلى أنه لن يسلم من بطش النظام وأتباعه.
تجاوز الخطوط الحمراء
وكان النوري قد تجاوز الخطوط الحمراء، وفقاً لمراقبين، فلم يكتف بانتقاد وضع الاقتصاد وصعوبات الحياة، بل وجّه اتهاماً مباشراً للسلطات ودورها.
كما نبش الماضي أيضاً، وهو ما أثار جدلاً واسعاً خصوصاً من موالي السلطة أو كما يعرفون بالمجتمع السوري بـ"الشبيحة"، وصلت حدّ التهديد ومطالبات بـ"معاقبة الفنان".
ولعل أسباب هذه الضجة بدأت بعدما اعتبر النوري في تصريحاته أن جميع قرارات حزب البعث، وهو الحزب الحاكم في سوريا، خاطئة، وأن شعاراته أصبحت مضحكة جداً.
وأضاف أن الحزب الذي ينادي بتوحيد الأمة العربية وتحرير فلسطين نسي أن الفلسطيني في فلسطين المحتلة يعيش برفاهية أكثر بأضعاف أضعاف المواطن السوري في سوريا الممانعة والصامدة، في إشارة منه إلى شعارات النظام ومواليه.
كما تابع النوري عن نظام البعث قائلاً باللهجة السورية: "المواطن صرلو من سنة 1963 عم يسمع عن تحرير فلسطين والصلاة بالقدس، وعم يشوف أنو مستوى الدخل بالمناطق الفلسطينية المحتلة 10 أضعاف ما هو عليه الحال في سوريا"، مهاجماً حزب البعث، ومؤكداً أن انقلابه العسكري سبب رئيسي لما حلّ بسوريا من تخلف على الصعيد السياسي.
وأكد أنه منذ العام 1963، وهو العام الذي سيطر فيه "البعث" على السلطة، لم يعد هناك أي دور للمواطنين، حيث اقتصر الدور بالكامل على الحكومة.
ورأى أن سوريا تتبع سياسة الإلغاء، حيث إن "الدولة يمكن أن تحذف اسم شاعر من الوجود لمجرد اختلافه بالرأي معه"، وفق تعبيره.
أما عن عودة رفعت الأسد إلى سوريا بقرار من ابن شقيقه رئيس النظام بشار الأسد قبل أشهر، فرأى النوري، أن الأسد العم نهب بعلم شقيقه حافظ، البنك المركزي دون أي مساءلة قبل فراره إلى فرنسا عام 1984.
"رفعت الأسد سرق المركزي بعلم أخوه"
وأضاف النوري: "في ناس أخدت كل ما في البنك المركزي ومشيت والعالم ساكت علماً أنو عندنا محامون ورجال قانون ومحد استرجى يرفع دعوى.. متسائلاً كيف تصل الخيانات إلى مستويات عالية"، في إشارة منه إلى تهريب رفعت الأسد عام 1984 بعد إعطائه أموالاً كثيرة غيّرت مجرى الاقتصاد في البلاد آنذاك، وأهبطت من قيمة العملة.
كذلك أكد النوري في المقابلة، أن الدولة لم تكن يوماً على حق وإنها لا تريد أن تشغل نفسها بالتفكير، ولم تعترف يوماً أنها ارتكبت أخطاء.
وشدد على أن سوريا كانت بلد الديمقراطيات، مبدياً تعجبه ممن يروّج لأكذوبة أن الشعب السوري غير مؤهل لممارسة الحريات.
كما أكد أن الحريات في بلاده أجهضت منذ وصول العسكر إلى الحكم، مؤكداً أن دولا عربية كثيرة تمتلك حريات أكثر من سوريا.
كذلك رأى أن سوريا كانت بلد الديمقراطيات بانتخاباتها وأحزابها، خصوصاً في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، إلى أن جاء حكم العسكر وأطاح الديمقراطية والدستور والثقافة.
تهديدات تطال الفنان وحذف اللقاء نهائياً
وقد أثار اللقاء الإذاعي ضجة واسعة جداً في البلاد، وصلت إلى حذفه نهائياً من جميع حسابات المحطة.
فيما طالب بعض "الشبيحة"، بتحرك واسع ومنسق ضد النوري، وسط تهديد من آخرين بالتحرك قضائياً ضده.
يذكر أن هذا الموقف لم يكن جديداً بالنسبة للفنان السوري عبّاس النوري، فرغم إعلان الولاء للنظام إلا أنه أثار ضجة واسعة قبل أشهر، حين طالب بإزالة صور بشار الأسد المنتشرة بشكل لا يصدق في كل مكان من العاصمة دمشق، خصوصاً بعد حملته الانتخابية الأخيرة العام الماضي.
والنوري يعتبر أحد أهم الفنانين السوريين، ومكانته في الصف الأول تماماً، وله أعمال حقق فيها بدور البطولة نجاحاً واسعاً على مستوى الوطن العربي، أهمها "باب الحارة"، أما آخر أعمال فكان "حارة القبة" والذي عرض في رمضان الماضي.