دوللي بشعلاني - الديار
لا يجوز أن يتمّ تعطيل الحوار بين القوى السياسية، فيما البلد ماضٍ نحو المزيد من الإنهيار، ونحو الغضب في الشارع الذي بدأه الخميس السائقون العموميون مدعومين من الإتحاد العمّالي العام، والذين قطعوا الطرق في غالبية المناطق اللبنانية. فتصاعد الغضب واستمراره خلال الأيام المقبلة، لا سيما مع وصول سعر صرف الدولار الأميركي الى نحو 34 ألف ل.ل. ثم انخفاضه قليلاً، قد يؤدّي الى شلّ الحركة في البلد، التي تتزامن مع الجمود السياسي وتعطيل المؤسسات الدستورية، في الوقت الذي يجوع فيه الشعب اللبناني ويفتقر، ولا يجد الدواء ولم يعد قادراً على شراء حاجياته اليومية ودفع فواتيره المستحقّة. والمؤسف بقاء الوضع الإقتصادي والمالي المتدهور، على ما هو عليه، مع التوقّع بذهابه نحو المزيد من الإنهيار، حتى موعد الإنتخابات النيابية المقبلة في أيّار المقبل، ما قد يؤدّي الى لفظ الشعب لأنفاسه الأخيرة مع عدم قدرته على الصمود أمام الإنخفاض غير المسبوق للقيمة الشرائية لليرة اللبنانية التي يقبض راتبه على أساسها.
وتؤكّد مصادر سياسية مطّلعة بأنّ مؤتمر الحوار الوطني الذي أراد رئيس الجمهورية ميشال عون دعوة جميع الأطراف اليه، كان الهدف منه رسم الخطوط العريضة للعناوين المطروحة على جدول أعماله، وهي اللامركزية الإدارية والاستراتيجية الدفاعية وخطّة التعافي الإقتصادي، على أن تكون جميع القوى مشاركة في عملية بناء الدولة، لا سيما «العقد الجديد» الذي تُطالب به دول الخارج وفي مقدّمتها فرنسا، وإن يجد البعض منها بأنّ هذه الدعوة جاءت متأخّرة في نهاية العهد، في الوقت الذي أوضحت فيه المصادر أنّ الطاولة كان يُفترض أن تُعقد هذا الشهر أي في كانون الثاني الجاري، وان تُستكمل على جلسات عدّة خلال الأشهر المقبلة، ولا ريب إن استمرّت ما بعد الإنتخابات النيابية للتوصّل الى اتفاق حولها، سيما وأنّ العهد باقٍ بعد إجراء هذه الأخيرة حتى تشرين الأول المقبل.
وإن كان الوقت متأخّراً، على ما يزعم البعض، غير أنّه، بحسب رأي المصادر، كان لا يزال سانحاً، فيما لو أرادت سائر القوى تحمّل مسؤولية إنقاذ البلاد من أزمته الخانقة، وانتشاله من الإنهيار المستمر في مختلف القطاعات. ومن المؤسف أنّ من يُعارض الرئيس عون اليوم، هي القوى نفسها التي أيّدته سابقاً، وساهمت في وصوله رئيساً الى قصر بعبدا، مثل رئيس «تيّار المستقبل» سعد الحريري، ورئيس «القوّات اللبنانية» سمير جعجح. ولعلّ السبب في ذلك هو اختلاف المصالح السياسية، وبدء المعارك الإنتخابية منذ الآن، وطغيانها على ما عداها من المواضيع والملفات بما فيها الأزمة الإقتصادية والمالية غير المسبوقة ووجع الناس والحاجة الماسّة الى معالجتها قبل أي أمر آخر، وترفض هذه القوى بالتالي مشاركة الرئيس عون في القيام بخطوة جيّدة في نهاية عهده قد يستخدمها في الإنتخابات النيابية المقبلة لصالحه ولصالح «حزبه»، وفي الإنتخابات الرئاسية لاحقاً.
وتقول المصادر نفسها بأنّ اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة التي ترفض قوى عدّة مناقشتها حاليّاً، والتي نصّ عليها «اتفاق الطائف»، ومن ثمّ الدستور، كانت مناقشتها لا بدّ وأن تفتح الباب على بنود أخرى من «وثيقة الوفاق الوطني» لم تُطبّق، مثل إلغاء الطائفية السياسية ومجلس الشيوخ. كذلك فإنّ وجود جميع القوى حول الطاولة للتحاور، كان من شأنه اقتراح عناوين أخرى ترغب البحث فيها والتوصّل الى اتفاق حولها، كما أنّ اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة لا تهدف الى نزع يدّ السلطة المركزية عن بقية المناطق، كونها تتمتّع بهامش إداري ومالي لتسيير شؤونها، إنّما تمكّن الدولة من تحقيق الإنماء المتوازن الذي نصّ عليه «الطائف» وهو بند أساسي فيه، وتُطالب المناطق البعيدة عن العاصمة والمحرومة بتنفيذه منذ عقود. وتتحمّل الحكومات المتعاقبة منذ الطائف وحتى يومنا هذا عدم تطبيقه وعدم إعطاء كلّ المناطق اللبنانية الحقوق نفسها لتطالبها بعد ذلك بالقيام بالواجبات المتوجّبة عليها تجاه الدولة..
أمّا الاستراتيجية الدفاعية التي يعترض المعتذرون عن تلبية الدعوة الى الحوار، على مناقشتها في المرحلة الراهنة كونها طُرحت في السابق على طاولة الحوار التي دعا اليها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي في العام 2016، وجرى البحث فيها في اجتماعات ومؤتمرات أخرى، ولم يتمّ التوصّل الى أي اتفاق بشأنها، فتُشكّل، على ما أضافت المصادر نفسها، بنداً مهمّاً في التوقيت بالذات. فحزب الله المعني بها بشكل أساسي، والذي لم يسبق له أن منع أو اعترض على مناقشتها، هو اليوم موافق على هذا الأمر، ما كان يُفسح في المجال أمام القوى الرافضة للحوار والتي تُنادي بنزع سلاحه في كلّ مناسبة، أن تُناقش هذا الموضوع في حضوره على الطاولة. كذلك فإنّ التوافق على وضع الإستراتيجية الدفاعية للبنان ضروري وملحّ في كلّ ساعة، لا سيما وأنّه يواجه بشكل يومي مخاطر الإعتداءات الإسرائيلية على سيادته برّاً وبحراً وجوّاً، كما على ثروته البحرية والنفطية مع تعليق المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود.
فيما مناقشة خطّة التعافي الإقتصادي من قبل جميع الأطراف السياسية في البلاد، كان من شأنه تمهيد الطريق، على ما أشارت المصادر، أمام إقرارها سريعاً في أول جلسة تُعقد لمجلس الوزراء، ولا تؤدّي مطلقاً الى عرقلة إقرارها، ولا يُمكن بالتالي أن تختزل طاولة الحوار دور الحكومة، ولا أن تحلّ مكانها كونها مؤسسة دستورية لها مهامها وصلاحياتها التي ينصّ عليها الدستور.
وذكّرت المصادر بأنّ طاولات حوار عدّة عُقدت في السابق، بعضها لم ينتج عنه أي اتفاق، وبعضها الآخر خرج بورقة، غير أنّ ما ورد فيها لم يُنفذ بسبب تغيّر العهد، كما أنّه سبق للرئيس عون وأن عقد طاولة حوار إقتصادية في قصر بعبدا خلال عهده، وقاطعتها قوى سياسية عدّة، وبقيت بلون واحد، ولم تُستكمل. علماً بأنّ أي حوار لا يذهب غالباً الى الفشل إلّا في حال عدم استمراره،ولهذا ربّما لم تتحمّس بعض القوى لتلبية دعوة رئيس الجمهورية الى الحوار، كون قرارات الطاولة تتطلّب الإجماع عليها، وهي بالتالي غير مُلزمة، خلافاً لما هو قائم في المؤسسات الدستورية، الأمر الذي جعلها تعتبرها «مضيعة للوقت».
تبقى إشكالية تناولتها المصادر عينها، وهي أنّه في حال قرّر الرئيس عون المضي في الدعوة الى طاولة الحوار «بمن حَضَر»، وجرى التوصّل الى توافق معيّن حول العناوين المطروحة على جدول أعمالها، فإنّ ما يُقرّ نتيجة المناقشات، لن يُوافق عليه الرافضون للحوار، بل قد يلجأون الى إطلاق النار عليه ووضع العراقيل أمام تطبيقه.فالعبرة لا تكمن فقط في النتيجة، إنّما أيضاً في التنفيذ.