جاسم عجاقة - الديار
في إطار إدارتها للسياسات العامّة، تواجه الحكومة في كل بلد في العالم تحدّيات تعتبرها محور عملها الحكومي بامتياز:
- التحدّي الأول هو التوازن الداخلي الذي يحوي على شق التوظيف الكامل Full employment واستقرار الأسعار Price stability . لذا، فالعمالة الناقصة أو الإفراط في العمالة تؤدي إلى تحركات غير محمودة في مستوى الأسعار تقلل من كفاءة الاقتصاد. وبالتالي لتجنب عدم استقرار مستوى الأسعار، يجب على الحكومة: منع التحركات الكبيرة في إجمالي الطلب بالنسبة لمستوى التوظيف الكامل، والتأكد من أن المعروض النقدي المحلي لا ينمو بسرعة كبيرة أو ببطء شديد؛
- التحدّي الثاني هو الرصيد الخارجي وتحديداً الحفاظ على حساب جارٍ متوازن لا يكون به عجز كبير ولا به فائض كبير. فالتجارة الخارجية يمكن أن تتسبب بمشاكل في الاقتصاد الكلي من منطلق الظروف الاقتصادية الخاصة بالبلد، الظروف في العالم الخارجي، والقوانين المرعية الإجراء التي تنظّم العلاقة الاقتصادية مع العالم الخارجي.
فالعجز المفرط في الحساب الجاري يؤدّي إلى ارتفاع الاستهلاك مؤقتاً نتيجة سياسات حكومية غير مؤاتية وإلى تقويض ثقة المستثمرين الأجانب والمساهمة في أزمة الإقراض. وأما الفائض المفرط في الحساب الجاري، فيؤدّي إلى انخفاض الاستثمار في المصانع والمعدات المحلية، ويخلق مشاكل محتملة أمام الدائنين لتحصيل أموالهم (Krugman2003).
- التحدّي الثالث: الثبات النقدي وسعر الصرف في ظل التعلّق المتبادل بين اقتصادات الدول. فالفوضى النقدية هي نتاج حتّمي للخلّل في التوازن الداخلي والرصيد الخارجي وهو ما دفع أحد الباحثين الإقتصاديين الى القيام بعملية تقييم للكلفة على الإقتصاد في حال ثبات العملة وفي حال تحريرها وتوصّل إلى أن كلفة تثبيت العملة على الإقتصاد في البلدان التي تعاني عدم ثبات سياسي وأمني هي أقلّ من كلفة تحريرها، وأما كلفة تحرير العملة على الإقتصاد في البلدان التي تتمتّع بثبات سياسي وأمني فهي أقلّ من كلفة التثبيت.
إذًا هذه التحدّيات الثلاثة تفرض إستراتيجية عمل مقسومة إلى قسمين: قسم تخطيطي على المدى البعيد، وقسم آخر حدثي أي ردّة فعل على تطورات أو أحداث تفرض اتخاذ إجراءات سريعة.
لبنان الغارق في أزماته
لبنان الغارق في أزماته السياسية والأمنية منذ سبعينات القرن الماضي، لم ينعم بفترات أمان طويلة تسمح له بالتخطيط على المدى البعيد. فالحرب الأهلية التي عصفت بلبنان على مدى 15 عشر عاما قضت على نصف الاقتصاد ناهيك بالخسائر الناتجة من غياب الفرص الإقتصادية. ومن ثم عصف بلبنان عدّة أزمات، منها العدوان الإسرائيلي في العام 1996 و2006، واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (2005)، وأحداث 7 أيار 2008، وبدء الأزمة السورية (2011)، والتفجيرات في العامين 2013 و2014، والفراغ الرئاسي (2007 و2014)، وأحداث نهر البارد، ومعارك فجر الجرود، وأحداث قبرشمون، وأحداث الطيّونة، والشلّل الحكومي منذ العام 2020، وتفجير المرفأ، وجائحة كورونا… وللأسف كل هذه الأحداث كان يتمّ حلّها على حساب الخزينة العامّة حيث تعاظم الدين العام في ظل عجز سنوي في الموازنة بمعدّل 3.1 مليار دولار أميركي (عجز تراكمي بأكثر من 80 مليار دولار أميركي)، تحوّل إلى دين عام وصل إلى أكثر من 97 مليار دولار أميركي حاليا.
المصيبة الكبرى كانت مع الاستيراد الذي وصل إلى مستويات كارثية خصوصًا في الأعوام العشرة الأخيرة. فمع معدّل فاق الـ 17 مليار دولار أميركي خلال هذه الفترة، تمّ الفتك بالحساب الجاري ومعه ميزان المدفوعات! ولا يمكن لأي مسؤول التنصّل من مسؤولية هذا الأمر نظرًا إلى أن مهمّة الحكومة هي الحفاظ على توازن الرصيد الخارجي!
الواقع على الأرض يشير إلى أن دولارات المصارف موّلت بالدرجة الأولى هذا الإستيراد ومن ثمّ موّلت خزينة الدولة. فالتحاويل بالعملة الصعبة التي كانت تخرج من لبنان كانت تخرج بأمر من المصارف لحساب عملائهم الذين كانوا يستوردون السلع والبضائع بشكل غير مسبوق لا يمكن تبريره بزيادة عدد السكان.
من جهتها، مسؤولية الحكومات المتعاقبة تتعاظم مع معرفة أن الاستدانة التي كانت تقوم بها كانت بهدف الإنفاق الجاري خصوصًا لقطاع الكهرباء، السلك الديبلوماسي، الإيجارات في الخارج، الصفقات العمومية، سفر الشخصيات، الاستهلاك الجاري (محروقات للمؤسسات العامة، قرطاسية…)، والأهم دفع فوائد سندات اليوروبوندز التي تعود بقسم كبير للمودعين.
إذًا ومما تقدّم نرى أن الحكومات المتعاقبة لا يمكنها التنصل من مسؤوليتها تجاه الدين العام والذي أدّى بحكم وقف دفع سندات اليوروبوندز إلى أزمة سيولة في المصارف نتج منها ما نعيشه اليوم.
في العديد من المقالات التي قمنا بكتابتها منذ العام 2013 وحتى يومنا هذا، كنا نطالب بتصحيح الخلّل في الميزان التجاري مع فرض رسوم جمركية عالية على الكماليات وتنشيط الصناعة المحلّية، إلا أن أحدًا لم يسمع! والأصعب في الأمر، أن بعض الحكومات سعت إلى إدخال لبنان إلى منظّمة التجارة العالمية في ظل عجز مطبق للشركات اللبنانية في مواجهة المنافسة الشرسة من قبل الشركات الخارجية وهو ما قتل أي فرصة للصناعات المحلية - وهذا ما يطرح احتمال قصد هذا الأمر أو جهل تداعياته بالمطلق - في حين أن دولا مثل الولايات المتحدة الأميركية أخذت إجراءات حمائية في ظل خطر كان محتملًا على شركاتها.
يبقى القول إننا في حلقة مُفرغة نتيجة فقدان الثقة تكبر يوماً بعد يوم مع تعاقب الحروب السياسية الداخلية العبثية وهو ما يُصعّب الخروج من الأزمة الحالية. ولكسر هذه الحلقة، لا بد من حدث كبير من شأنه إما تغيير الوضع الراهن أو من خلال فرض اعتقاد معاكس أو نشر فكرة جديدة New approach. وتبقى الثقة هي نقطة البداية لحل هذه المعضلة فكيف يمكن للبنان كسر هذه الحلقة عمليًا لا نظريًا؟
السياسة النقدية
السياسة النقدية الموكلة إلى المصرف المركزي تهدف إلى دعم السياسة المالية للحكومة. وبالتالي فإن من يوجّه السياسة النقدية هو الحكومة عبر وضع هدف معين (مثلًا سعر صرف ثابت)، ويأتي دور المصرف المركزي لتنفيذ هذا التوجّه من دون أن يحق للحكومة التدخل في طريقة التنفيذ عملًا بمبدأ استقلالية المصارف المركزية والتي تمنع على الحكومات فرض الضرائب الخفية مثل طبع العملات.
الحكومات المتعاقبة في لبنان لم تضع سياسات مالية تحمل أهدافا واضحة، وهذا ما يمكن استنتاجه من الموازنات ومشاريع الموازنات (2006 إلى 2016) التي كانت نسخًا مكررة عن سابقاتها مع تعديل في بعض البنود على حساب بنود أخرى. لكن التوجيه الوحيد الذي كانت تعطيه الحكومات للمصرف المركزي اللبناني منذ العام 1997 هو اعتماد سعر صرف ثابت. وهذا الأمر وإن كان أمراً ضروريا في الحالة اللبنانية، إلا أنه يجب أن يواكب بعملية إصلاحات إقتصادية تسمح للإقتصاد اللبناني بتأمين مداخيل بالعملة الصعبة تغطي متطلبات تثبيت سعر الصرف وهو ما يضمن الثبات النقدي على المدى الطويل.
إن استنزاف الإحتياطي من العملات الصعبة منذ اندلاع الأزمة في العام 2019 وحتى يومنا هذا جعل إمكان تثبيت السعر شبه مستحيل في ظل الانكماش الكبير في تدفق الدولارات الناتج من الأزمة (أو الأزمات) وبالتحديد وقف دفع سندات اليوروبوندز (مصدر تمويل إستراتيجي للدولة اللبنانية بالعملة الصعبة)، وسياسة الدعم التي تمّ اتباعها في نيسان 2020.
من هذا المنطلق نرى أن السياسة النقدية للمرحلة القادمة خصوصًا في ظل فرضية المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، هي سياسة «هدفها الوسيط التضخّم» على أن يتمّ تحرير سعر صرف الليرة على منصة صيرفة التي ستنتقل حكمًا إلى سوق قطع رسمي يتم عليها توحيد كل أسعار الدولار المتداولة حاليًا في السوق.
تعديل التعميم 151
التعميم الذي أصدره مصرف لبنان والذي عدّل بموجبه دولار السحوبات (المعروف باللولار) من 3900 إلى 8000 ليرة للدولار الواحد، أثار حفيظة العديد من الأشخاص من مبدأ أنه سيرفع التضخم. التعميم - قبل تعديله - كان يسمح للمودع بسحب شهري مع سقف 5000 دولار أميركي على سعر 3900 ليرة لبنانية، أي ما يوازي 20 مليون ليرة شهريًا. التعديل سمح للمودع بـ 3000 دولار أميركي شهريًا على سعر 8000 ليرة لبنانية، أي 24 مليون ليرة لبنانية، وهو ما يعني أن المودع أصبح يستحصل على المبلغ نفسه تقريبًا، لكن مع توفير 2000 دولار أميركي. بالطبع هذا الأمر لا يعطي المودع حقّه، لكن يخفف عنه جزءاً مهماً من خسائر الهيركات القسرية. ولولا وجود السقف للسحوبات، لكانت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية انفجرت. إلا أن خفض السقف وتطبيق المصارف لمبدأ النسبية على المبالغ التي يمكن سحبها يلجم التضخم بالكتلة النقدية. وهذا التحليل مبني على فرضية أن يكون التعديل قد لحظ التقلبات في السحب قبل التعميم 158 وبعده.
لكن المشكلة تبرز من جهة المتضرّرين من التعديل على التعميم 151، وخصوصًا تجار الشيكات حيث أصبحت أعمالهم مهدّدة بالتوقف من ناحية أن المودع لن يقبل بعد هذا التعديل الإقتطاع الذي يمارسه تجار الشيكات (15 دولارا لكل 100 دولار أميركي). من هنا عمد البعض إلى رفع سعر السوق السوداء لإمتصاص ارتفاع سعر دولار السحوبات وهو ما تشير إليه المعلومات التي تداولتها وسائل الإعلام عن شراء 23 مليون دولار أميركي في السوق السوداء منذ ثلاثة أيام، وهو ما يوازي ضعف حجم السوق اليومي! وهنا نطرح السؤال: لماذا هذا الشراء ومن هو المستفيد؟
البيانات الصادرة عن كل من مصرف لبنان في تقريره الشهري وسعر الدولار في السوق السوداء تُظهر (أنظر إلى الرسم) أن ارتفاع الدولار في السوق السوداء لا يأتي من زيادة الكتلة النقدية بحكم أن الكتلة النقدية م1 قطعت نقطة تحوّل (Turning Point) في تشرين الثاني 2020، أصبحت معها الزيادة في الكتلة النقدية تتراجع حتى بلغت الزيادة في شهر تشرين الأول 2021 نسبة 1%.
عمليا بحسب النظرية الكمية للنقد (Quantitative Theory of Money) وبفرضية ثبات سرعة تداول العملة على المدى القصير، كل زيادة في الكتلة النقدية (كنسبة مئوية) تنعكس زيادة في الأسعار بالنسبة المئوية نفسها. وعليه، وبحسب المعطيات البيانية، فإن ارتفاع الكتلة النقدية بنسبة 1% لا يبرّر ارتفاع سعر السوق السوداء (واستطرادًا أسعار السلع).
كل هذا يعيدنا إلى معضلة السوق السوداء وتأثيرها الكبير الذي فرضه التجّار النافذون بحكم الأمر الواقع، وما زاد الوضع سوءاً هو فقدان الثقة بالقطاع المصرفي وبالليرة اللبنانية.