باتريك إيليّا أبي خليل
تصدّر اكتشاف آبار الغاز في شرق حوض المتوسّط إهتمام العالم القابع في سباق السيطرة على موارد الكوكب، وبات البحر المتوسّط في العقد الأخير مركزاً للتجاذبات الإقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة لغايات الهيمنة، إذ يسعى النسر الغربيّ إلى تقويض نفوذ الدبّ الشرقيّ المتحكّم بأكبر احتياطيات العالم من الغاز الطبيعي القابض على عنق القارة العجوز.
ولكن هذه المرّة لم يعد ينحصر التنافس الدوليّ في مجال احتكار الطاقة على الدول العظمى، بل أخذ يتداخل ويتشعّب مع دول إقليميّة تحدّ الحوض المتوسّط، حيث نشأت تحالفات أخطبوطيّة وتفاهمات إقليميّة وعالميّة مؤطّرة غازيّاً بين دول الإنتاج والعبور والإستهلاك، وتحوّلت عمليّة الإستخراج وطرق تخريجه إلى وسائل ضغط تحقّق أهدافاً سياسيّةً خارجيّة، سيّما مع تزايد الإعتماد العالميّ على الغاز الطبيعيّ كأحد أهمّ مصادر الطاقة النظيفة.
ومع توالي هذه الإكتشافات في البحر المتمتّع بأهميّة جيوسياسيّة ثلاثيّة قاريّة متلاصقة، وثلاثيّة مضائقيّة تاريخيّة وأساسيّة للتجارة العالميّة، هرولت إليه شركات النّفط والغاز العالميّة ودولها واستشرست الدول الإقليميّة على موارده، ما استدعى تحالفات سياسيّة جديدة، ضمن سباق ترسيم حميم وتنقيب مريب برؤى اكتساب مركزيّة عمليّة التسييل والتصدير والترانزيت.
من هذا المنطلق، يرى الإتّحاد الأوروبيّ في غاز حوض المتوسّط سبيلاً للتحرّر من الهيمنة الروسيّة المتحكّمة بمفاتيح لعبة الغاز العالميّة، خصوصاً بعد إنجاز السيلين الشمالي والتركي وبعدما فشلت محاولات سابقة في إنشاء أنابيب ونقل الغاز عبر مصادر أخرى أبرزها خط "نابوكو" لنقل الغاز من آسيا الوسطى والذي فقد جدواه بعد تطويقه من الحكومة الروسيّة وتوقيعها لعقود احتكار مع الدّول المنتجة، وخط "الممرّ الجنوبيّ للغاز الطبيعيّ" الذي يهدف لنقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر خطّي "تاناب" و"تاب" والذي أخفق في خلق واقع تنافسيّ ذي جدوى إقتصاديّ ملحوظ لهزالة إمكاناته في نقل كميّات محدودة من الغاز الطبيعيّ سنويّاً.
في هذا السياق، ومع البدء باستثمار الحقول الغازيّة في البحر الأبيض المتوسّط، يتجلّى الصراع في إنشاء خط "أنابيب شرق المتوسّط" الذي يستثني مصر ويربط إسرائيل بقبرص فاليونان، بهدف تأمين قسم كبير من احتياجات السوق الأوروبيّة من الغاز الطبيعيّ. إلّا أنّ عقبات عدّة تواجه تنفيذ هذه الخطة أبرزها التكلفة الباهظة والضغوط الروسيّة والمعارضة التركيّة والخيبة المصريّة، الأمر الذي حوّل التنافس الإقتصاديّ في العديد من الأحيان إلى خلاف سياسيّ مترافق مع تهديدات عسكريّة ومناورات جيوش واستعراضات قوّات بحريّة بين أطراف المصالح في حوض شرق المتوسّط، بما يدلّ على أهميّة المخزون الغازيّ فيه وشهيّة الدول الإقليميّة والعالميّة المشرّعة عليه.
يبقى لبنان، بخلاف جميع الدّول المطلّة على الحوض، البلد الوحيد الذي لم يحسم أمره ويحزم عدّته، رؤيته، وجهته، مصلحته، وتحالفاته. فهو الوحيد غير الموحّد الذي لم يتّخذ بعد قراره في الإنضمام لأيّ من المحاور والمجموعات المتضامنة، وسقط نازفاً في انفجار مرفأه آبياً النهوض في نهضته رغم التنافس على إعادة إعماره واستثماره من قبل دول داخلة أو داعمة لكلا المحورين، فتسمّر هائماً تائهاً في دوّامة الخيارات والخيارات المقابلة، وأيّ استرضاء لذاك يتستدعي غضب ذيك فيما يغرق هو في قعر بحر أزمات ملوّثة باللُعاب الهستيريّ داخل حوض طاقته النظيفة.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا