كارين عبد النور
أسوة بمختلف شرائح المجتمع، لم يسلم المحامون من انعكاسات الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الضاغطة. فمعاناتهم اليوم تنقسم إلى جزأين: الأول شبيه بمعاناة سائر اللبنانيين الذين تنقصهم الرعاية الصحية والاجتماعية حيث يئنّون تحت وطأة غلاء المعيشة وتدهور قيمة الليرة، والثاني يرتبط مباشرة بمرفق العدالة الذي يعتبر المحامي ونقابته جزءاً لا يتجزأ منه. وعلى الرغم من عدم توفّر إحصاءات رسمية محدّثة في نقابة المحامين حول ارتدادات الأزمات الراهنة على وتيرة عمل المحامي، إلّا أنَ ما لا ريب فيه هو إقفال عدد كبير من مكاتب المحاماة وانتقال محامين كثر إلى مكاتب أصغر بهدف الحدّ من المصاريف التشغيلية أو حتى مغادرة لبنان بحثاً عن فرص عمل في الخارج.
وسط الأعباء المتراكمة الملقاة على كاهل المحامي، نلقي الضوء في ما يلي على أبرزها كما المطالب والحلول المرجوّة من النقابة العتيدة.
إضرابات متتالية... والتدهور مستمرّ
لا شكّ أنّ أزمة القضاء والعدالة تتبلور أساساً في تزعزع ثقة السواد الأعظم من اللبنانيين بقضاء عادل ومنصف يضمن لكلّ صاحب حق حقه. كذلك، هناك التأخر والمماطلة في البتّ بالملفات والقضايا وإصدار الأحكام، إذ باتت الطرق "غير القانونية" في كثير من الأحيان تشكل وسيلة بديلة يعتمدها المواطن لاختصار "المسافات"، ممّا أدى إلى الحدّ من حجم عمل المحامين نتيجة تقلّص عدد الدعاوى المرفوعة في القضاء. لكن مع ذلك، بقيت الأمور نسبياً تحت السيطرة إلى أن ضربت جائحة كورونا ومع ما تبعها من إغلاقات في الدوائر والمحاكم والإدارات العامة. ولم يكن إضراب القضاة في أيار 2019 – عقب التململ الناتج عن غياب أي تجاوب أو تطمينات بعدم التعرّض لاستقلالية القضاء - سوى غيمة أخرى ملبّدة في سماء الجسم القانوني. وقد تلاه الإضراب الذي دعت إليه نقابة المحامين والذي استمرّ من 28 أيار 2021 حتى 23 أيلول 2021، على خلفيّة الاعتداء على أحد المحامين ومخالفة الإجراءات القانونية ذات الصلة آنذاك، ليفاقم من تراكم الملفات وعرقلة سير القضايا. ثم ما لبث أن حذا حذو المحامين موظفو الإدارات العامة الذين أعلنوا إضرابهم المفتوح في 28 تموز الماضي احتجاجاً على تجاهل الدولة لأبسط حقوقهم وعلى خسارة رواتبهم أكثر من 95% من قيمتها. لقمة عيش المحامي أصبحت بالمحصلة على المحك. فهو لا يتقاضى دائماً راتباً شهرياً إنما يعتمد على ما يجنيه من بدل أتعاب القضايا الموكلة إليه.
نسأل محامين كثراً عما يعترض عملهم من عقبات وتأتي الإجابات شبه جامعة. فعلى سبيل المثال، ترفع الأستاذة إيلين زيادة، محامية في الإستئناف، الصوت عالياً لناحية المشقات اليومية التي يواجهها المحامي في خضم معالجة ملفاته قائلة: "بدأت معاناتنا الفعلية مع جائحة كورونا وما نتج عنها من إقفال المحاكم وإدارات الدولة، ثمّ تلاها الإضراب الذي نفّذه القضاة والذي بسببه ألغي انعقاد الجلسات والبتّ بكافّة القضايا، علماً أنّ التأخير في تحقيق العدالة هو مرادف للّاعدالة. وحل بعدها الإضراب الذي دعا إليه النقيب السابق ملحم خلف والذي كان ملزماً لجميع المحامين تحت طائلة عقوبة التحويل إلى المجلس التأديبي، ما أدّى إلى تفاقم الأمور والغياب التام للمرافعات والجلسات ما أوقف عملنا بشكل كامل". وتضيف أن "الإضراب المفتوح الذي نفّذه موظفو القطاع العام توقف على أثره سير العمل في المحاكم على مختلف أنواعها، ما شلّ حركة الجلسات والمراجعات من جديد. كما ليس خافياً الوضع المزري في مؤسسات الدولة بصورة عامة في ظلّ انقطاع التيار الكهربائي، كذلك توقف برامج المعلوماتية عن الخدمة بسبب انعدام إجراءات الصيانة والتحديث ناهيك بعدم توفّر الحبر والورق في بعض الدوائر. فحجم المعاناة التي نواجهها عند القيام بأيّة مراجعة قانونية أو محاولة تسديد الرسوم في المالية أو إصدار إخراجات قيد من دوائر النفوس أو الاستحصال على إفادة عقارية وسندات ملكية أو غيرها من المستندات كبير. علماً أنَ الإجراءات المذكورة تعود بالربح على الدولة من خلال الرسوم والطوابع التي تستوفى لمصلحة خزينة الدولة، من هنا ضرورة العمل الجدّي للحدّ من هذه المهزلة".
وعن سؤال حول كيفية تماشي المحامين اليوم مع انخفاض مستوى المعيشة وفقدان العملة قيمتها، تجيب الأستاذة زيادة أن حجم النشاط تراجع بحسب التقديرات بنسبة لا تقلّ عن الـ 50%. ولفتت إلى أنّ الكثير من المحامين يفتحون أبواب مكاتبهم ليومين أو ثلاثة فقط في الأسبوع وذلك للحدّ من المصاريف التي لم يعد بقدرتهم تحملها. كما أنّ إقفال العديد من الشركات والمؤسسات شكّل عاملاً سلبياً إضافياً، إذ إنّ الكثير من المحامين يعتمدون على المبالغ التي يتقاضونها من الأتعاب السنوية المعقودة مع الشركات. وعن بدل أتعاب المحامي، أشارت إلى أنّ الحدّ الأدنى الذي يتقاضاه المحامي عن قضية ما كان يقارب 2000 دولار. أمّا اليوم وفي ظل التدهور الاقتصادي المتسارع، فقد أصبح الموكّل عاجزاً عن تسديد الأتعاب بالعملة الأجنبية، بينما لم يعد بمقدور المحامي تحديد القيمة المعادلة بالليرة لا سيما نتيجة غياب أيّ تعديل رسميّ صادر عن النقابة، في وقت يتحتّم على المحامي تحمّل ارتفاع أسعار المحروقات وتغطية مصاريف تنقلاته كما تسديد رسوم الدعاوى وكلفة الطوابع وغيرها. وهنا لا ننسى النفقات الأخرى "الجانبية" إذا صح التعبير، تجنباً لاستخدام مصطلح آخر، في الكثير من الدوائر. فـ"التسعيرة" معروفة وإلّا... تبقى المعاملة عالقة إلى أجل غير مسمّى.
هل توفّق النقابة بين المطالب والمداخيل؟
للغوص أكثر في هموم وشجون المحامي، تواصلت "نداء الوطن" مع نقيب المحامين السابق في بيروت، الأستاذ جورج جريج، الذي أكّد أنّ الضرر الأكبر الذي لحق بالمحامين جاء نتيجة تدهور سعر الصرف وانفجار الرابع من آب بحيث تضرّر أكثر من 250 مكتب محاماة، كذلك هجرة الكثير من المحامين الشباب إلى دول الخليج سعياً خلف فرص عمل بعيداً عن الإضرابات المتلاحقة والأزمات السياسية والاقتصادية العاصفة بالبلد.
ولخّص جريج مطالب المحامين بثلاثة: أوّلها وقد أسماها "جنى العمر"، إذ على النقابة العمل جاهدة لاسترجاع أموال المودعين بقيمتها الحقيقية من خلال قانون واضح وصريح يضمن حق المحامي، وذلك على غرار الكثير من الدول الأخرى التي تعرّضت لأزمات مشابهة، كاليونان مثلاً، والتي بادرت الدولة فيها خلال أيام معدودة إلى وضع قانون يضبط الرقابة على الأرصدة. ثاني المطالب يتمثل بضرورة العمل على أن يكون المحامي بأمان إن من خلال الدعم العربي أو الغربي للنقابة على حدّ سواء، أو بواسطة قرارات داخلية تقضي بتعديل جدول بدل أتعاب المحامين والذي لم يعد يتناسب البتة مع الغلاء المعيشي. أمّا آخرها، فهو ضرورة أن يحظى المحامون برعاية صحية أفضل إن في المستشفيات أو في المختبرات لأنّ المحامي، كما جميع اللبنانيين، مهدّد بأمنه الصحي.
وبالنسبة إلى مداخيل نقابة المحامين، فقد لخّصها جريج بما يلي: رسوم العقود المتبادلة المسجّلة في أمانة السجلّ العقاري، والتي تبلغ 1 بالألف من قيمة البيع أو الشراء، نصف بالألف يذهب لصندوق التقاعد والنصف الآخر للصندوق التعاوني أي الاستشفائي. أضف إلى ذلك الرسوم المتوجبة على صندوق الوكالات، إذ يبلغ الرسم على كل وكالة 75000 ليرة. ثم هناك الرسم السنوي المتوجب على صندوق الطوابع، إلى جانب الرسوم المتوجبة على المتدرجين، رسوم الصعود إلى الاستئناف، رسوم دخول النقابة والاشتراكات السنوية المستحقة على المحامين.
أمّا عن مصاريف النقابة وبالإضافة إلى تلك التشغيلية والنثرية والمتعلقة بالمؤتمرات، تحصر المدفوعات بصندوق المتقاعدين من جهة وبالصندوق التعاوني من جهة أخرى. فالأول يتكفّل بتسديد تعويضات حوالى 1500 متقاعد، وهو مبلغ لا بأس به، في حين أن الثاني يشهد مشاركة المحامي تسديد فاتورة التأمين الصحي الخاصة به. فإذا كانت كلفة التأمين 1200 دولار، على سبيل المثال، يدفع المحامي 800 دولار وتتكفل النقابة، من خلال الصندوق التعاوني، بتسديد المبلغ المتبقي.
أولويات جدول أعمال النقابة المنتخبة
في اتصال مع أمين سرّ نقابة المحامين الحالي، الأستاذ سعد الدين الخطيب، تطرّق إلى الوضع "الكارثي" الذي وصل إليه محامو لبنان. فقد اعتبر أن لا مشكلة في بدل أتعاب الدعاوى والاستشارات، إذ حدّدت النقابة الحدّ الأدنى بـ5% من قيمة دعوى الاستئناف على ألّا تتخطى 25% من القيمة الإجمالية، فاسحة بذلك المجال للمحامي بتحديد المبلغ المطلوب. إلا أنّ العقبة الشائكة، بحسب الخطيب، هي الحدّ الأدنى من قيمة الوكالات السنوية التي يتقاضاها المحامي مقابل توكيله عن الشركات والمؤسسات. وهو الرقم الذي أقرّته النقابة في آخر تعديل جرى سنة 2012 بقيمة 9 ملايين ليرة أي ما كان يوازي يومها 6 آلاف دولار. المعضلة حالياً هي عجز الشركات عن تسديد المبلغ بالدولار في وقت تعادل قيمته على سعر صرف السوق السوداء حوالى 130 مليون ليرة. فـ"كيف لشركة يبلغ رأسمالها 30 مليون ليرة، مثلاً، أن تتكبد بدل أتعاب محام بهذه القيمة؟" أما من وجهة نظر المحامي، لا يتخطى المبلغ 400 دولار في حال تصريف الأتعاب المستلمة بالليرة على سعر صرف السوق الموازية، وهو مبلغ زهيد جداً لن يقبل أيّ محام بتقاضيه.
على صعيد آخر، يحتّم قانون النقابة على أي محام يتخطى مردوده السنوي الـ100 مليون ليرة (وقد رُفع هذا الرقم حديثاً إلى 150 مليون ليرة) تسديد رسوم الضريبة على القيمة المضافة. وهذا ما سيزيد من الأعباء عليه تلقائياً، إذ وصّف الخطيب هذا الموضوع المستجدّ بكونه أحد أبرز نقاط النقاش الدائرعلى طاولة النقابة الجديدة.
وختاماً، نفى الخطيب، رداً على سؤال حول ما إذا كانت النقابة تنظر في شأن رفع قيمة الانتسابات في ظلّ تدهور الليرة وسعياً لزيادة مداخيلها، أن تكون المسألة على جدول أعمال النقابة حالياً. لكنه أكّد على أنّ الأخيرة تقوم بـ"شدّ الأحزمة" من خلال تقليص النفقات إلى حدّها الأقصى، وذكر في هذا السياق مصاريف المؤتمرات الخارجية التي تدفع بالدولار على سبيل المثال. أمّا "مجلّة العدل" والتي تبلغ مصاريفها سنوياً 25000 دولار، فهي حصلت على تمويل من نقابات أخرى في فرنسا.
ومقاربة للهم الأساس والقاضي بالتوفيق بين مداخيل النقابة وقدرتها على تسديد رواتب المتقاعدين، تجدر الإشارة إلى مشروع القانون الذي رُفع إبان ولاية النقيب السابق ملحم خلف ويرمي إلى زيادة الرسوم القضائية على الأحكام من 500 ليرة إلى 25000 ليرة. فقد وجد المشروع طريقه إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، لكنه لم يقرّ بعد بسبب المماحكات السياسية داخل المجلس.
ثمة أمل وترقب لإقرار هذا المشروع وبأسرع وقت تزامناً مع إيجاد أطر فعالة أخرى للنهوض مجدداً بواقع المحامين المأزوم. وهو نهوض لا مناص منه، برغم تغيّر الأزمنة وتبدّل الأحوال، لتبقى نقابة المحامين "أمّ النقابات" ومهنة المحاماة نبراس العدالة.