د. ميشال الشماعي
المفاوضات الدائرة اليوم في فيينّا لا تبحث فقط مصير إيران، بل مصير المنطقة برمّتها. ولبنان الطبق الأدسم لأنه واجهة الغاز في شرق المتوسط. أمّا سوريا فستدخل حتماً في اتفاقيات ابراهام والحوافز ستغدق على إيران لإيقاف سياستها النووية. يبقى أنّ المفاوَض في لبنان هو مَن يملك قدرة المساومة مع العدو، أي "حزب الله" الذي أوكل الرئيس بري بهذه المهمّة ليحافظ على صورته المقاوِمَة. فهل سيعود لبنان إلى الخريطة الدوليّة من البوّابة الإيرانيّة؟ أم سيرجع لبنان إلى ثوابته التاريخيّة ليعود الرسالة التي أرادتها يد الرّبّ في هذا الشرق الجريح؟
ممّا لا شكّ فيه، أنّ الولايات المتّحدة اليوم بسياستها التفاوضيّة تفرض واقعاً في السياسة الدّوليّة على قاعدة مفاوضة الحمل للذئب. وهي وضعت نصب أعينها في رؤيتها الاستراتيجيّة النّجاح في الصراع على الطاقة، لأنّ هذه الخمسين سنة ستحمل في طيّاتها حرباً جديدة على مصدر مستجدّ للطاقة غير البترول وهو الغاز الطبيعي. ومَن سيتحكّم بمسار الغاز في شرق المتوسّط هو وحده سيستطيع التحكّم بمسار السياسة الدّوليّة. ولعلّ هذا ما تسعى إليه الولايات المتّحدة اليوم بنقلها الصراع إلى وسط غرب آسيا، أي في أفغانستان التي تحدّها دول ستّ ستكون هي مسرح الصراع القادم كما ذكرنا منذ لحظة انسحاب الأميركيين من أفغانستان في كتابات سابقة.
وقد بدأنا نشهد تأجيجاً للصراع الآذري الأرمني، فضلاً عن التصادم الذي حصل بين عناصر من حركة طالبان وعناصر من حرس الحدود الإيراني؛ فضلاً عن الاستعدادات الروسيّة الشرسة على أبواب أوكرانيا. إن دلّت هذه الأحداث على شيء فهي تدلّ على أن الصراع في تلك المنطقة سيأخذ نواحي تصعيديّة جديدة. من هذا المنطلق، قد تستعِر الأمور إلى حدّها الأقصى في شرق المتوسّط إذا ما شعرت إيران بتمسّك الغرب بمطالبه للحدّ من الأعمال النوويّة.
وهذا ما يفسّر حركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صوب دول الخليج لرأب الصدع بينها وبين إيران ولبنان. ولن تسحب إيران أذرعها من المنطقة إلا إذا أجبرت على استخدامها في مكان آخر. وهذا ما ستجبرها عليه الولايات المتّحدة بإشعال وسط غرب آسيا. وهذا ما سينهي بدوره نظريّة الجيوش الستّة التي شكّلها الحرس الثوري في ستّ دول عربيّة للسيطرة عليها. على وقع تنامي اتّفاقيّات أبراهام التي تطرق اليوم أبواب سوريا حيث بات الرئيس السوري مجبراً للدخول فيها ليحافظ على ما تبقّى له في العروبة.
لذلك لا يبدو أنّ عودة لبنان ستكون من البوّابة الإيرانيّة لأنّ الضغط سيتزايد عليها ممّا سيدفعها للتنازل تدريجيّاً عن الورقة اللبنانيّة. وهذا ما سيفسّر نجاح مفاوضات الترسيم مع لبنان التي يقودها الرئيس برّي. ما سيسمح له بأن يكون عرّاب المرحلة القادمة لا شريكه في الثنائيّة. وهنا سيجد دوره في المرحلة القادمة أو لوريثه السياسيّ.
أمّا اليوم، فلاستعادة لبنان وإعادته إلى الخريطة الدولية يجب العمل بمسارين متزامنين:
- المسار الأوّل داخلي بامتياز، من خلال الضغط والتمسّك والعمل لإجراء الانتخابات النيابية.
- المسار الثاني خارجي. إمّا أن يستفيق السياديّون في لبنان ويتّجهوا إلى دول القرار اليوم لإعادة لبنان إلى وجهه ووجهته الكيانيَّين؛ وإمّا أن يتحوّلوا إلى بيادق يموتون على مسرح التفاوض الكبير.
فعلى قدر ما أنّنا نستطيع أن نصنع مصيرنا بأيدينا، على قدر ما يجب إيلاء الدور الخارجي الشأن الأكبر والذي على ما يبدو، سيتغلّب على الدور الداخلي إن لم نستطع المواجهة كما يجب، وفرض واقع جديد من خلال تثبيت الدّولة القادرة القويّة ولو كلّف ذلك تضحيات جمّة. لكن فلنضحِّ مرّةً واحدة ليبقى لنا لبنان وطناً نعيش فيه قناعاتنا لنحقّق أحلامنا. من غير المسموح الاستسلام أو الخضوع، سواء للمسار الدّاخلي للأمور أم للمسار الخارجي للتفاوض. فما يحصل في الـ micro على أهميّته لن يكون الفاعل في مسار التاريخ على قدر ما يحصل في الـ macro وهناك بيت القصيد.
لكن نحن مَن يجب أن نصنع مصيرنا بأنفسنا؛ وما لم نقرّره اليوم ونفرضه على مَن يسعون في فيينّا إلى رسمه لنا، فسنبقى طوال الخمسين سنة القادمة بحالة اندثار، حتّى نهاية فكرة الوجود المسيحي الحرّ في الشرق. فهذا هو سقف المواجهة اليوم، وليس أقلّ من ذلك؛ لنرجع يداً للربّ في هذا الشرق، وأنموذجاً في العيش معاً ليبقى لبنان. فهل سنستطيع تحقيق الخرق دوليّاً بديبلوماسيّتنا السياديّة؟ أم قد ندخل في زمن الخضوع، أو المقاومة المستمرّة؟