ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، قداس الاحد في المطرانية، في حضور حشد من المؤمنين.
وبعد القداس ألقى عودة عظة قال فيها: "يحدثنا إنجيل اليوم عن إنسان جاء ليجرب يسوع فطرح عليه سؤالا وجوديا رغم طابعه الشخصي"، وقال: "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟. دعا يسوع معلما وصالحا وكأن كلامه اعتراف صريح ببر يسوع وفضيلته، وبالتالي اعتبره مرجعا صالحا للاجابة عن مثل هذا التساؤل. لكن الإنجيلي أوضح أنه جاء مجربا ليسوع، ما يعني أن في كلامه تملقا خبيثا لأن المؤمن المتواضع لا يأتي إلى يسوع مجربا بل ممجدا.
في الآية التالية يرد الرب يسوع السؤال إلى صاحبه قائلا: (لماذا تدعوني صالحا وما صالح إلا واحد وهو الله). أراد أن يعلمه أن الله وحده منبع الصلاح، ولا صلاح حقيقي خارجه، لذلك علينا ألا نطلب برا أو صلاحا إلا من الله، وإن كان من صالح فهو صالح لأنه من الله".
أضاف: "سؤال الشاب مشروع وقد نطرحه جميعنا لأننا نطمح إلى الحياة في كنف الله، لكننا نكتفي كالشاب بالقليل. نطمح إلى الملكوت لكننا نبتغي في الوقت عينه الراحة والسعادة على هذه الأرض، ونحاول ترتيب أمورنا بحيث نضمن المستقبل ولا نخسر الحاضر. الشاب حفظ الوصايا وكان يظن نفسه كاملا. لكن الكمال ليس في المعرفة السطحية للوصايا بل بعيشها. كان يعتقد أنها الباب إلى الخلود، لكنه شعر أن شيئا ما ينقصه. حفظ الوصايا ليس الباب إلى الملكوت، وما هو أهم من حفظ الوصايا تطبيقها وعيشها. لذلك نرى يسوع يركز على الأهم، على الحياة الفقيرة بالغنى المادي، الغنية بمحبة المسيح والتعلق به. فعندما قال الشاب: (كل هذا حفظته منذ صبائي). أجابه يسوع: (واحدة تعوزك بعد، بع كل شيء لك ووزعه على المساكين فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني). عندما تتخلى عن كل شيء وتتمثل بالسيد وتتبعه، عندها فقط تضمن لك كنزا في السماء لا يفنى ولا يزول. هذه رسالتنا جميعا، رسالة كل مسيحي مؤمن بمسيحه وعامل بوصاياه".
وأردف عودة: "الرسول لا يهتم لحياته إنما لرسالته، لا يفكر بثروته بل بمهمته، واثقا أن من نذر له القلب والحياة لن يتخلى عنه، وإن أدخله في تجربة فلتطهيره وتقديسه. الأساس في حياتنا ليس الغنى أو الفقر إنما الحياة مع الله، العيش برفقته، بالصلاة المستمرة ومحبة القريب. فبعد اعتناق الوصايا ناموسا للحياة يجب الإنتقال إلى المستوى الأسمى: حسم الموقف من أولويات الحياة. أربعة أوامر توالت في كلام يسوع: بع كل شيء، وزعه، تعال، اتبعني. اللافت أن الوعد بالكنز السماوي لا يأتي بعد تعال اتبعني بل بعد وزعه على الفقراء فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني. رب سائل: هل التخلي عن المقتنيات وإطعام المساكين أهم من اتباع المسيح؟ قطعا لا. لكن الطريق إلى المسيح تمر عبر الآخر الذي سماه الرب القريب. أن تطعم الجائع وتسقي العطشان وتأوي الغريب وأن تحب أخاك الذي تراه، هي طريقك إلى الرب الذي لا تراه. (المحبة هي كمال الناموس) يقول بولس الرسول (رو 13: 10) وهي طريقنا إلى الملكوت، والعطاء أحد مظاهرها. (لما سمع ذلك حزن لأنه كان غنيا جدا). وعندما رأى يسوع حزنه قال: (ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله، إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله).
وشدد على أن "ملكوت السموات هو الكنز الذي لا يقدر بثمن، والذي يستحق أن نضحي بكل شيء من أجله لأنه الثابت الوحيد، فيما الخيرات الأرضية زائلة مهما كانت طائلة. هذه الخيرات ليست سيئة إن كان صاحبها يراها هبة من الله، لأنها تكون طريقه إلى ملكوت الله. من خبر المرض أو الألم والموت يدرك جيدا حدود الثراء، لأن الصحة والسعادة والنجاة من الموت أمور لا تشرى بالمال. لذلك ينبغي تفضيل الحكمة على الغنى والتقوى على الشبع. المال عطية من الله و(المعطي المسرور يحبه الله) يقول بولس الرسول (2 كو 9: 7) ويتابع (الله قادر أن يزيدكم كل نعمة حتى تكون لكم كل كفاية كل حين في كل شيء فتزدادوا في كل عمل صالح) (2 كو 9: 8).
إن كان الله يغني أحباءه فهذا لا يستتبع أن كل غنى هو ثمرة بركته، وكلنا لا نجهل وجود مال الظلم والفساد، ونعرف أن المال الحرام، الذي يؤدي إلى حرمان البشر خيرات الأرض، يودي بصاحبه إلى الهلاك. مجرم كل من يجني خيراته على حساب الناس. كافر هو الغني الذي يعتمد على ثروته ويظن أن بإمكانه الإستغناء عن الله. جاء في سفر الأمثال: (من اتكل على غناه يسقط) (11: 28) وأيضا: (شيئين سألتك فلا تمنعهما عني قبل أن أموت: أبعد عني الباطل وكلام الكذب. لا تجعل حظي الفاقة ولا الغنى بل ارزقني من الطعام ما يكفيني لئلا أشبع فأجحد وأقول من الرب) (أمثال 30: 8-9)".
أضاف: "يقول الرسول يعقوب في رسالته: (هلموا الآن أيها الأغنياء أبكوا وانحبوا على الشقاوات التي تأتي عليكم. إن أموالكم قد فسدت وثيابكم أكلها العث. ذهبكم وفضتكم قد صدئا وصدأهما سيشهد عليكم ويأكل لحومكم كالنار، ها إن أجرة العملة الذين حصدوا حقولكم تلك التي بخستموهم إياها تصرخ، وصياح الحصادين قد بلغ إلى أذني رب الجنود. قد تنعمتم على الأرض وترفتم وأشبعتم قلوبكم في يوم الذبح. قضيتم على البار وقتلتموه وهو لا يقاومكم، هوذا الديان واقف على الباب) (5: 1 -9). أما بولس الرسول فيوصي تيموثاوس قائلا: (يوصي أغنياء الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يتكلموا على الغنى غير الثابت بل على الله الحي الذي يؤتينا كل شيء بكثرة لنتمتع به) (1 تيمو 6: 17). ولكي ننال كل شيء علينا أن نعطي كل شيء. لكي نحصل على الكنز الفريد لا بد من بيع كل شيء إذ (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال) كما قال الرب (متى 6: 24). إن الغنى الحقيقي ليس ما نملك بل ما نعطي لأن العطاء يستمطر سخاء الله ولأن العطاء مغبوط أكثر من الأخذ (أع 20: 35)".
وسأل عودة: "هل تدري الطبقة السياسية التي حكمت لبنان عقودا أن تعلقها بمصالحها وغناها، عوض التشبث بسيادة لبنان والمحافظة على مصالحه والإهتمام بالشعب وحاجاته وصون حقوقه، قد أوصل البلد إلى هذا الدرك. هل يدرون أن الفساد الذي جعلوه ثقافة أدى بالبلد إلى الإنهيار. وهل يتساءلون عما جنوه وقد أوصلوا بلدهم إلى الجحيم وشعبه إلى البؤس واليأس، بعد أن شلوا المؤسسات وعطلوا عملها وجعلوها مطية للوصول إلى مكتسبات يدعون أنها لهم، وكأن البلد والشعب ملكا لهم ورثوه".
وقال: "من وجوه التعلق بالعالم، حب المال والتعلق بالسلطة، حتى لو أدى هذا التعلق إلى الظلم والسرقة والفساد. هذا ما يحدث في بلدنا الحبيب، الذي يعتبر كل مسؤول فيه أنه حفظ الناموس منذ حداثته، والآن هو في السلطة لكي يدافع عن حقوق ناموسه الخاص. يستغلون العاطفة الدينية لجلب الأتباع، وجذبهم إلى أفكار معوجة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة. يعدون الشعب ولا يفون بالوعود. يسخرون طاقات البلد من أجل مصالحهم ويستغلون الشعب من أجل تحقيق طموحاتهم. أصبح الشعب أسير جشع المسؤولين وتعلقهم بالسلطة وبمغريات هذا العالم الفاسد، الذين تناسوا ما قاله الرب للغني: (يا غبي، في هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟) (لو 12: 20). يريدون أن يزيدوا على غناهم غنى، حتى ولو أدى ذلك إلى زيادة فقر الشعب فقرا. يكافحون من أجل ما لهم لا من أجل لبنان، يظلمون ويهجرون ويتهربون من العدالة ويعرقلون عمل القضاء ويهملون معالجة الخلل ولا تخطيط لديهم ولا رؤية من أجل بناء دولة عصرية. لذلك على أبناء الشعب أن يعوا واجبهم التغييري وأن لا يتهاونوا يوم الإستحقاق الإنتخابي، وأن يعملوا العقل والمنطق قبل المصلحة. المهم في الإستحقاق المقبل ألا يتعلق الشعب بالأرضيات ويتبع الزعماء وينسى الأهم، وهو خلاص البلد من الطغمات الفاسدة التي فجرت ونهبت وهجرت. المهم ألا يقبل الشعب ببيع صوته مقابل لقمة تسد جوع لحظة، بينما يمكنه، أمام صندوقة الإقتراع، أن يتخذ موقفا حكيما يحصد نتائجه تغييرا وازدهارا وأملا بمستقبله ومستقبل أولاده. التجويع سياسة المسؤول الفاسد الذي يهدف إلى كسر كرامة الشعب لتطويعه، فلا تقعوا في فخ التدجين الذي يجرونكم إليه. الله خلقكم أحرارا، فلا تسمحوا لمخلوق أن يستعبدكم".
وختم عودة: "في إنجيل اليوم ندرك الصلة بين الغنى والمكافأة والحياة الأبدية. فدخول الغني إلى ملكوت الله عسير و(إنه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غني ملكوت الله). (لكن ما لا يستطاع عند الناس مستطاع عند الله) وأبواب الملكوت مشرعة أمام الأغنياء الذين يحسنون استخدام أموالهم ويجعلون ثرواتهم في خدمة أبناء الله. أما من تخلى عن غناه وعن كل تعلق مادي وتبع المخلص فهذا أجره عظيم لأنه (يأخذ في هذا الزمان أضعافا كثيرة وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية) (لو 18: 30). فلننبذ الأرضيات ولنحفظ الكلمة الإلهية والوصايا ولنقرن القول بالفعل لكي ننال الملكوت. آمين".