رمال جوني
في جمهورية الغلاء...طار اللبناني، وبات سعره اقل من عشرة آلاف، في حين يسجل يومياً ارتفاع للمحروقات، والخبز رهينة بورصة الدولار الذي يواصل ارتفاعه الجنوني من دون توقف، أما السلع الحياتية الأساسية فضحّى بها المواطن وباتت من الكماليات بعدما دخل سعرها في بورصة المازوت الذي يحلق عالياً مع الدولار.
في هذه الجمهورية لا صوت يعلو فوق صوت الضرائب والحصار الاقتصادي اللعين، حتى الفوطة الصحية باتت صعبة المنال على الفتاة بعدما تجاوز سعرها الـ50 الف ليرة، فرب الاسرة الذي لديه 4 فتيات يحتاج شهريا الى200 وربما 400 الف ليرة ثمن فوط صحية لم تدرجها الحكومة العتيدة في سلم الدعم، ولم ترأف بمن هم تحت خط الفقر، والمخزي جداً ان يدعو وزير الشؤون الاجتماعية الى العودة للفوط القماشية للتوفير، وكأن الحكومة في واد، والناس المجنونة بالغلاء في واد.
لا عجب إن شبّه الناس ما يعيشونه بالعصفورية، لا أدوية متوفرة، لا قدرة لشراء مازوت ولا غاز ولا طعام ولا حتى مياه للاستعمال والشرب، فالاسعار تحلق "ع الدولار"، والمعاشات تتهاوى مع الليرة، أما الحكومة فآخر همها.
تبدي سوسن إنزعاجها من سوء الاحوال، الطالبة المدرسية باتت تقلق مع اقتراب موعد دورتها الشهرية، اذ بات شراء الفوط الصحية أمراً تعجيزياً لا سيما وأنها تحتاج الى علبتين كما شقيقتيها، ما يعني انهن يحتجن الى 300 الف ليرة فيما راتب والدها لا يتخطى الـ900 الف ليرة، هذا من دون أن ننسى باقي الفواتير الكارثية. تبكي بحرقة، إذ يصعب عليها الطلب من والدها هذا المبلغ شهرياً، ولكن ما باليد حيلة، ما تأسف له ان الحكومة وضعت الفوط الصحية في آخر اهتماماتها وربما لم تتذكر هذا الموضوع اصلاً، بل تركت التجار يرفعون سعرها الى ان تخطت الـ50 الفاً بعدما كانت بـ3500 ليرة لبنانية، "فكيف سنتدبر حالنا وسط كومة الازمات والغلاء، ما الحل هل نسرق؟ ماذا سنفعل واي تهاون في هذا الموضوع يجرنا الى ما لا تحمد عقباه".
على حد قول فاتن، فإن تراخي الحكومة وكافة المعنيين بملف الفوط الصحية وضع صحة الفتيات على المحك، فهذا الامر لا تلاعب فيه على الاطلاق، وقد ينسحب امراضاً خطيرة تحتاج علاجاً وادوية وهي غير متوفرة، ما تطلبه فاتن وباقي الصبايا الرأفة بهن في هذه الظروف الصعبة.
بحسب فدوى فإنها بدأت تدّخر المال من مصروفها لجمع ثمن الفوط "اذ اضطررت الشهر الماضي للاستدانة لشرائها، فوالدي نفد راتبه بالكامل، وهذا امر لا يستهان به، من اوصلنا الى هنا، وهل نحن في حلم أم كابوس".
الظروف المعيشية تزداد حدة، وبات صعباً تأمين تنكة بنزين وقارورة غاز أما الدواء فهو من رابع المستحيلات، كل شيء مفقود او غالي الثمن، ما يجعل الحياة صعبة، بل شبه مستحيلة، فكل القطاعات الحياتية متوقفة، حتى الخياطة التقليدية التي نشطت في خضم الازمة، واستعاد معها الخياطون القدامى مجدهم، توقفت عن الدوران تماماً كما يحصل مع الكندرجي الذي يقف عند شفير الانهيار، فالازمة الراهنة لم تترك قطاعاً من شرها إلا وضربته في الصميم.
لا قانون عادلا يطبق، وحده قانون الغلاء "شغال" يومياً، اما الحياة فمتوقفة، بل مشلولة بالكامل، اذ لم تحمل الحكومة العتيدة معها سوى رفع الأسعار، فكل يوم تسعيرة "شكل" وكل ساعة بيان رفع اسعار من قطاع الخبز والكهرباء والمحروقات والخضار والضربة القاضية جاءت مع ارتفاع اسعار المازوت، ما يعني مزيداً من ارتفاع السلع الحياتية سواء من الخضار او المواد الغذائية وحتى الخبز فكله مرتبط بالنقل والنقل مرتبط بالمازوت والمازوت عالدولار، والدولار تخطى عتبة الـ23300 ويتجه صعوداً اكثر، ما يعني مزيداً من الانزلاق الى الهاوية.
مع تقليعة الاسعار الجنونية، يقف محمد مذهولاً امام سعر قارورة الغاز وهو بائع غاز منذ عدة سنوات، كان يعتاش من المصلحة قبل ان تصبح حياته جحيماً، فالمصاريف اليومية اكبر من الانتاج، اذ يقول "في حال بعت قاروة غاز بـ300 الف ليرة، فإن المطلوب يومياً فوق الـ500 الف ما يعني تآكل المصلحة، وبت عاجزاً عن شراء مزيد من القوارير للبيع، خلافاً للعام الماضي حيث كان الانتاج بألف خير وكنت قادراً على تلبية مصاريف المنزل أما اليوم فمستحيل جداً.
معظم العاملين في القطاعات الحياتية مصيرهم على المحك، فالسياسات المالية تركت آثارها الوخيمة عليهم، فالكندرجي مثلاً يتقاضى ثمن تصليح الحذاء باللبناني ويشتري بضاعته وفق دولار السوق الأسود، ما يحتم عليه رفع كلفة تصليح الحذاء من الفي ليرة الى عشرة آلاف ليرة وربما اكثر، والحال نفسها تسري على الخياط الذي استعاد اخيراً مجد مهنته لتصليح الالبسة.
بإختصار إن سكوت الشعب عن تفاقم الازمات له دلالة واحدة ان يتعايش مع عصفورية الغلاء واعطى للحكومة جواز تحكّم أبدي بظروفه.