حسن فيصل سنو- صحيفة النهار
أتمّ لبنان سنته الـ75. كذلك والدي، أطال الله عمره وأنعم عليه بالصحة والسعادة.
شخصُه نتاج ما عاش وتشرّب من وطنه، إلّا أنّ الوطن لم يعد يشبهه، إذ إنه لم يعد يشبه نفسه.
أبصر والدي النور قبل نيل الوطن استقلاله التام بأسابيع قليلة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد أسمته والدته، بعدما أًعجِبت بشجاعة الأمير السعودي الشاب فيصل، الذي تبوّأ منصب وزير الشؤون الخارجية في عمر فتيّ. ولعلّ الشجاعة هي من السّمات التي اكتسبها والدي مع هذه التسمية منذ تلك اللحظة.
على عكس لبنان، يتحدّر والدي من عائلة متواضعة الجذور، إذ كان ربّ المنزل يسعى وراء لقمة العيش عبر فتح مطعم في مدينة حيفا، وكذلك عن طريق شراء موادّ خام من منطقة قريبة من الحدود السورية - التركية لصالح مصنع في بيروت. وكانت أحوالهم ضيّقة، لا تسمح لهم إلّا بتلبية الحاجات الأساسية حصراً.
لكن العائلة، وفق العادات السائدة في لبنان منذ تلك الأيام، استثمرت في تعليم أبنائها: على الرغم من أن جدّتي تزوجت في عمر صغير قبل أن تنهي دراستها المدرسية، إلا أنّها حرصت على تعليم عماتي الأربع مما أدى إلى نيل اثنتين منهنّ شهادة جامعية.
كذلك، تجاوز والدي كثيراً من التحديات ليكمل تعليمه التأسيسي في المقاصد، ولينتقل بعد ذلك إلى مدرسة رسمية نظراً لضيق الأحوال. كان ذلك في بداية الستينيات، زمن ازدهار لبنان وفورة تطوّره الذي كان محط الأنظار.
يخبرنا الوالد عن المسافات التي كان يقطعها سيراً على الأقدام للوصول إلى المدرسة أو إلى متجر الأخشاب الخاص بوالده، بالقرب من الميناء أو للذهاب إلى صلاة الجمعة. كان يمشي لساعات لعدم قدرته على استخدام وسائل النقل التي كانت متاحة آنذاك في بيروت. أمّا المال القليل الذي كان يحصل عليه من والديه، فكان يحتفظ به لشراء حلوى "باباروم" كلّ فترة للاستمتاع بها، إلى أن اكتشف يوماً أنها تحتوي على الكحول، علمًا بأنّ احداً لم يتساءل أبدًا عن سبب احتواء "باباروم" على الكحول: كانت الحرية "حقيقية" في ذلك الوقت.
ارتاد والدي الجامعة في القاهرة، لأنّ دراسة طبّ الأسنان لم تكن متوافرة بالمجّان في لبنان إلّا باللغة الفرنسية. تسجّل في طب الأسنان هناك، لكن الأمر انتهى به طبيباً بيطرياً نتيجة خدعة من القنصل اللبناني في القاهرة في ذلك الوقت، والذي كان "رجل دين". لم تكن لديه رفاهية الشكوى. لذلك، عمل بجدّ للحصول على شهادته ثمّ عاد إلى وطنه، إلى بلد كان لا يزال في ذروته.
استخدم والدي شهادته ومعرفته في رعاية الحيوانات الجريحة عندما كنا صغارًا ولكن ليس كمصدر رزق. كانت الدولة مشغولة ببناء أسس اقتصاد ريعي، ولم تكن الزراعة وكل ما يتّصل بها من الأولويات. لذلك، انضم إلى شركة عائلته قبل بدء الحرب الأهلية.
وفي ظلّ الأوضاع المتردية، خاطر بحياته أكثر من مرة لضمان تسليم طلبية من الخشب أو لتحصيل دفعة لتأمين لقمة العيش لابنته المولودة حديثًاً. كان العمل بجدّ وصدق هو القاعدة الوحيدة التي عرفها والتزم بها.
في النهاية، دفعه القدر إلى الهجرة، إذ إنّ عميل الشركة الوحيد في الخارج كان على وشك الإفلاس، فسافر لتحصيل الأموال المستحقة لشركته. وكما كان الحال بالنسبة للكثيرين من أبناء جيله، استمرّ هذا "المنفى المؤقت" لمدة 20 عامًا.
خلال فترة غيابه، تدمرت الشقة الصغيرة التي تمكن من شرائها بالقرب من جسر "الكولا" قبل مغادرته، نتيجة القصف الإسرائيلي. وقد عمل على إصلاحها شيئاً فشيئاً على مدى السنوات التالية على أمل العودة في نهاية المطاف.
وبينما كان يحثّنّا دائمًا على التمسك بأحلامنا، حافظ هو على واقعيته: لقد ضحى هو وأمي في السنوات الأولى من حياتهما كزوجين لتأمين أفضل مستويات التعليم لنا. وبينما بدأ لبنان بإعادة بناء نفسه استناداً إلى سياسية الاستدانة دون أفق للسداد، علّمنا أهلنا أن نعيش حصراً في حدود إمكانياتنا وأن الحياة لا تقدم لنا ما نريد على طبق من فضة.
نشأ والدي في بيئة محافظة، وعلى هذه الصورة علّمنا أن نصلي ونصوم وإخراج الزكاة من أموالنا، وكان واثقًا من أن القيم التي تشرّبناها من والدتنا ستسمح لنا باتخاذ أفضل الخيارات. لم يجبرنا أبدًا على التديّن، ولم يسمح للخوف من الآخر أن ينمو فينا. كان الدين شأنًا شخصيًا، وليس أمرًا يُفرض على الآخرين: مثال حقيقي للعلمنة.
على مر السنين، عمل مع شركاء لبنانيين مسلمين ومسيحيين ويهود ومع شركاء عرب وأجانب. ولطالما شجّعنا على العمل مع الأشخاص الطيبين بغض النظر عن هويتهم وانتماءاتهم. في تلك الأثناء، كان لبنان يقبع تحت رحمة أمراء الحرب الطائفيين وخطاباتهم القائمة على الكراهية.
عاش والدي الإخفاقات وخيبات الأمل التي أثرت على صحته، ولكنها لم تؤثر يوماً على مثابرته وثباته في مبادئه. وعلى الرغم من التحديات، لطالما كرّر ولا يزال أنه لا يمكن للمرء التنصّل من جذوره، وبالتالي الأجدر التمسّك والاعتناء بها.
أنا ابنه الوحيد في بلد يمارس التمييز الجندري ضدّ النساء. ومع ذلك، لم أشعر مرة واحدة في حياتي بأنني أفضل أو بأنني سأحصل منه على أيّ أفضلية عن شقيقاتي الثلاث. بالنسبة إلى والديّ، المساواة بيننا في الحقوق والواجبات هي الأساس.
ومع ذلك، يذكّره وطنه يوميًا بانعدام المساواة لأن ابن أختي وابنتها والدهما مصري، وبالتالي لا يفهمون سبب عدم تمكنهم من أن يكونوا لبنانيين أيضًا.
عندما اتّضح لوالدي أنني جدير بالترقية لإدارة الأعمال التي بناها على مدى أكثر من 30 عامًا، لم يفكر مرتين. هو الذي كان قد وضع قواعد داخلية في الشركة للتأكد من أن المناصب الإدارية لن يتمّ توريثها بل كسبها بالاستحقاق، وكان يعلم أن التشبث بالمقعد سيؤدي في النهاية إلى تدمير كل شيء. الجدارة هي الميزة الوحيدة التي يبحث عنها والدي لإعطاء الفرص، وهذا ما لم يتم تنفيذه حتى الآن في لبنان، حتى في المناصب القيادية الأكثر أهمية.
اليوم، يكرّس والدي وقته لعائلته ومجتمعه: لقد عاد إلى جذوره، إلى مقاصد كانت مأزومة ويبذل لها أقصى الجهود.
في أقل من 3 سنوات، وبدعمٍ من عدد قليل من المهنيين والمانحين اللبنانيين، نجح في تجنّب انهيارها، وعادت المؤسسة إلى الازدهار مرة أخرى حسب كل رواية حتى تلك الخاصة بأعدائها. حررت نفسها من الفساد والتعيينات السياسية وسوء الإدارة والمحسوبية. بالنتيجة، تمت محاربة والدي بضراوة حتى اليوم، لكنّه أثبت أنه عندما تكون هناك إرادة، هناك حلول. كان البعض يود أن تسير الأعمال كالمعتاد ولكن إرادة التغيير الحقيقية، ولو من قلة من الناس تغلب دائماً، بغضّ النظر عن مدى صعوبة الأمر في البداية.
والدي هو صورة حية لما زرع لبنان فيه: شجاع، مستقل، مثقف، مجتهد، صادق، ممتن، قنوع، كريم، مؤمن، محترم، عنيد، براغماتي، ذكي وعادل. هو كل ما أتمنى أن يكونه لبنان، كل ما يمكن أن يكونه لبنان، وهو للأسف ليس كذلك.
سمعت مؤخّرًا كمال مزوّق يقول "لو كان لبنان شخصاً يبلغ من العمر 75 عامًا، فلن أودّ التكلّم معه – بل أفضل الاستماع إليه".
أنا محظوظ لوجود والدي السبعينيّ بجانبي، وأنا أستمتع بالاستماع إليه. أمنيتي له أن ينعم في فترة تقاعده بسلامٍ مستحق، في البلد الذي يقول دائمًا "إنه المكان الوحيد الذي أريد أن أشيخ فيه".
عضو مؤسّس في لنا – حزب ديموقراطي اجتماعي
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا