جوني منيّر
قبل أن تنطفئ أزمة تشتعل أخرى لا تقلّ خطورة عن سابقاتها. وهي نتيجة طبيعية للتناقضات السياسية المفتوحة، والأهم الافتقاد للقيادة السياسية لأخذ المبادرة وتنظيم الواقع اللبناني. وقد تكون إشارة الاطمئنان الوحيدة التي تمنع لبنان من الانزلاق بعيداً، هو بالقرار الخارجي الكبير بمنع لبنان من الذهاب الى الفوضى الشاملة، وانفجار الوضع بالكامل، ما يعني تحويل الساحة اللبنانية الى شظايا متناثرة.
لهذا السبب لم تنزلق الساحة اللبنانية باتجاه مواجهة مسلحة شاملة إثر أحداث الطيونة الدامية، ولهذا أيضاً لن تصل الأزمة السياسية مع السعودية ودول الخليج الى قطيعة نهائية، وبالتالي سيجري ترتيب حلّ ما للأزمة القائمة، ولو اخذت المسألة بعض الوقت. صحيح انّ الأزمة التي فجّرتها السعودية بُنيت على أساس كلام صادر عن الوزير جورج قرداحي قبل دخوله الحكومة، لكن لا بدّ من طرح تساؤلات عديدة أحاطت بالمسألة، كمثل خلفية اختيار توقيت إذاعة المقابلة رغم انّها سُجّلت قبل مدة لا بأس بها. فمواقف قرداحي معروفة وهي ليست جديدة، ما يعني انّ الحساسية تجاهه كان يمكن ان تظهر قبل الآن. فلماذا صدر الموقف السعودي بهذه القوة وفي هذا التوقيت بالذات؟
لا شك انّ الحرب الدائرة في اليمن تضغط بقوة على السعودية، خصوصاً مع التطورات العسكرية التي تشهدها منطقة مأرب الشديدة الأهمية بالنسبة لها. ولا حاجة لتكرار الشكوى السعودية الدائمة من دور «حزب الله» على الجبهات اليمنية. وبالتالي، هنالك من يعتقد بأنّ الموقف السعودي المتشدّد يهدف للضغط المعاكس على «حزب الله» الذي يملك ثقلاً وحضوراً مؤثراً في هذه الحكومة.
أضف الى ذلك، اعتقاد هؤلاء بأنّ السعودية، التي تجري مباحثات ومفاوضات مع ايران، لا تزال في مرحلة الاستكشاف، كما اعتبرها وزير الخارجية السعودية، وهو ما يستوجب عليها تجميع الاوراق في يدها. لكن اياً تكن التفسيرات الجاري تسويقها، فإنّ الموقف الدولي عاد وظهر بوضوح حيال وجوب مراعاة الوضع اللبناني لا شدّ الخناق أكثر حول عنقه.
لذلك، سارعت باريس للتواصل مع السلطات السعودية حيال الأزمة التي استُجدت. ولذلك أيضاً شارك القائم بأعمال السفارة الاميركية في اجتماع خلية الأزمة في وزارة الخارجية اللبنانية في سابقة ديبلوماسية. لا شك أنّ هذه المشاركة حصلت بموافقة مباشرة من العاصمة الاميركية، التي أرادت ان توجّه رسالة واضحة تقول بأنّها تدعم الجهود اللبنانية الآيلة لإيجاد حلول للأزمة القائمة. ذلك انّ الجميع يدرك بأنّ ما يحصل انما يدخل في اطار أوسع واكبر، له علاقة بالصراع السياسي المفتوح مع ايران في المنطقة، وبطبيعة الحال مع «حزب الله». هي مرحلة شديدة الصعوبة، لأنّ الشرق الاوسط في صلب مشروع إعادة رسم خريطة النفوذ فيه. ومعه، فإنّ مستوى الضغوط مرتفع لدرجة تبدو المسألة في بعض الأحيان وكأنّها اقتربت من لحظة الانفجار. وهذا ما يفّسر سلسلة الاهتزازات العنيفة التي تمرّ فيها الساحة اللبنانية، والتي من المرجح ان تستمر فصولها الى حين ترتيب تسوية شاملة في المنطقة.
وعلى وقع هذه الاهتزازات، غابت متابعة اللبنانيين للقاء الذي جمع الرئيس الاميركي جو بايدن مع رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس. فعدا عن انّ هذه الزيارة لم تكن بروتوكولية ولا زيارة مجاملة، فإنّ الوقت الطويل الذي استغرقه الاجتماع ينبئ بأنّ مسائل كثيرة جرى التطرق اليها وبالعمق، والملف اللبناني كان حاضراً، على ما رشحت به بعض المعلومات. فعدا الاهمية التي أعطاها الفاتيكان لهذا اللقاء، ربما استناداً الى انّ بايدن هو ثاني رئيس اميركي كاثوليكي وملتزم دينياً بعد جون كينيدي، فإنّ نسبة الكاثوليك الاميركيين باتت تقارب الـ 25% من الاميركيين.
صحيح انّ بايدن قرّر ألّا يترشح لدورة رئاسية ثانية، وهو ما سيجعله متحرّراً في رسم سياسته، لكن الانتخابات النصفية هي على بعد حوالى السنة، أضف الى ذلك أنّه يرغب بالتأكيد تأمين نجاح المرشح الديموقراطي للرئاسة الاميركية بعد حوالى ثلاث سنوات، وقطع الطريق على خصمه اللدود دونالد ترامب. لذلك فإنّ بايدن يسعى الى إنجاز تاريخي خلال ولايته الرئاسية، ويركّز على انتاج خارطة نفوذ سياسية جديدة في الشرق الاوسط، الى جانب انجاز التفاهم النووي مع ايران.
العديد من الرؤساء الاميركيين التقى برؤساء الكنيسة الكاثوليكية على مرّ الزمن. اول رئيس اميركي التقى البابا كان عام 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وتدشين الولايات المتحدة الاميركية لدورها على المسرح العالمي، وكان يومها الرئيس وودرو ويلسون. وعام 1959 كان اللقاء الثاني بين دوايت أيزنهاور والبابا يوحنا الثالث عشر. وبعدها حرص كل الرؤساء الاميركيين المتعاقبين على لقاء رأس الكنيسة الكاثوليكية. لكن اللقاء الأهم جرى ايام الرئيس رونالد ريغان حين التقى بالبابا يوحنا بولس الثاني في العام 1987 في عزّ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي. ففي ذلك الاجتماع جرى التفاهم حول سبل مواجهة «الخطر» الشيوعي وكيفية إجهاضه. كثيرون يضعون لقاء بايدن بالبابا فرنسيس بأهمية اجتماع ريغان ويوحنا بولس الثاني. فاللقاء كان الأطول في تاريخ اللقاءات، حيث امتد لحوالى 80 دقيقة خلافاً لما كان مقدّراً له.
في الشكل، فإنّ ارتياح الفاتيكان لسياسة بايدن لا مجال لمقارنتها بالعلاقة المتوترة التي سادت ولاية سلفه دونالد ترامب، لدرجة انّ البابا فرنسيس أطلق يومها مقولته الشهيرة: «الشخص الذي يفكر في اسوار مبانيه اينما كانت ولا يفكر في بناء الجسور ليس مسيحياً».
يومها دام لقاء البابا بترامب 30 دقيقة فقط، وبالتالي فإنّ الـ 80 دقيقة مع بايدن تعكس اجواء التفاهم بينهما، مع الإشارة الى انّ لقاءين اثنين كانا قد حصلا بينهما حين كان بايدن نائباً لباراك اوباما.
أصداء الاجتماع كانت ايجابية للغاية، وهو ما عكسته اجواء الفاتيكان. وقيل انّ دفء اللقاء جعل الرئيس الاميركي يتطرق في بدايته الى حادثة وفاة ابنه، وحمل معه هدية هي شعار الوحدة العسكرية التي خدم فيها نجله.
أجواء الفاتيكان أشارت الى انّ البابا طرح الملف اللبناني خلال الاجتماع، وانّ رأس الكنيسة الكاثوليكية يحرص خلال المراحل الاخيرة على طرح الملف اللبناني والأخطار المحدقة به، في جميع لقاءاته مع كبار المسؤولين القادرين على التأثير.
فمثلاً، زار أخيراً رئيس الحكومة الفرنسية ومعه وزيرا الخارجية والداخلية الفاتيكان، وكان الملف اللبناني حاضراً. وقبل ذلك زارت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل البابا في زيارة وداعية، وطرح معها الملف اللبناني.
في الواقع، فإنّ الفاتيكان قلق على الوضع في لبنان، وهو ما جعله يخصّص له مساحة في كلماته الرسمية الأساسية، اضافة الى اليوم اللبناني الذي حصل خلال شهر تموز الماضي في الفاتيكان.
وقريباً سيزور وزير الخارجية الفاتيكاني المونسنيور كالاغار لبنان، وهو الذي كان شارك الى جانب أمين سر دولة الفاتيكان بييترو بارولين في النصف الثاني من اللقاء بين بايدن والبابا.
وفي إشارة ودية من بايدن الذي يختلف مع البابا حيال مسألة الإجهاض، فإنّ البيت الابيض عيّن سفيراً جديداً له، هو مقرّب جداً من بايدن، لكنه يتبنّى وجهة نظر الفاتيكان حول مسألة الاجهاض.
ماذا يعني كل ذلك؟
هو يعني مسألة واحدة، بأنّ خطر المساومة على لبنان في عزّ الصراع الحاصل في المنطقة، والمواجهات العنيفة والقائمة على أساس فتح اسواق المقايضات والمساومات السياسية، لن تطال لبنان.
واستتباعاً، لن يذهب لبنان الى الانفجار الكامل، ولو أنّ آلامه ستشتد بسبب الصراعات العنيفة الحاصلة. وكذلك لن يجري تدمير نظامه رغم تهور وأنانية الطبقة السياسية الحاكمة.
في الواقع، ثمة بصيص نور يلوح في الأفق، رغم انّ العتمة تزداد سواداً في المرحلة الحالية.