غادة حلاوي
لم يلغِ إصرار المجتمع الدولي على اجراء الانتخابات النيابية ذاك الشعور الذي يساور الكثيرين بأن إتمام هذا الاستحقاق المفصلي قد لا يحصل في موعده الدستوري. المبررات لذلك كثيرة وبينها واحد يستحق المعالجة والالتفات ويتعلق بالعاصمة بيروت على وجه التحديد والمشهد الذي ستكون عليه الانتخابات. المرشحون والتحالفات وميزان القوى السياسي وصاحب القرار الفصل، كلها تفاصيل لم تتوضح معالمها بعد. فحال المدينة الانتخابي سيغدو مختلفاً هذه الدورة. لا شخصيات وازنة مرشحة ولا ثقل سياسي او انتخابي. العاصمة حاضنة الطوائف يبكي حاضرها على الماضي.
لم يكن تفصيلاً ما تردد عن احتمال عزوف الحريري عن الترشح للنيابة مجدداً لضيق احواله المالية. فالخبر وان كان غير مؤكد بعد، فإن الوقائع تعزز مثل هذه الفرضية. إذ إن رئيس الحكومة السابق ورئيس كتلة المستقبل النيابية الذي وعد بالعودة الى البلاد الشهر المقبل، غائب عن المشهد السياسي منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر ولا تصدر له مواقف من القضايا الداخلية المطروحة الا لماماً، ما اوقع كتلته النيابية في حال من الارباك والتخبط.
تستبعد شخصية سياسية فرضية عدم ترشح الحريري للنيابة وتدرج مثل هذا الخبر في خانة استدراج عطف الناخبين، لأن غيابه عن المشهد الانتخابي يربك سنة بيروت لعدم وجود البديل، ولكون الحريري لا يزال يغرف من إرث والده الرئيس رفيق الحريري ويحظى بحماية شعبية كرّسته زعيماً للسنة. فالناخب الذي اعتاد انتخاب الحريري لن يختار بديلاً عنه ويفضل الاحجام بدل التصويت لغيره.
ولنفترض ان الحريري عجز لأسباب مالية وسياسية عن الترشح فان ذلك يعني اقفال بيت آل الحريري. تلك العائلة التي اخطأت يوم وافقت لحظة توزع ارث الحريري الاب على اقفال قصر قريطم، لما له من رمزية معينة في ذهن اللبنانيين. وكأن اقفال هذا البيت كان نذير شؤم عليها معطوف عليه انعدام الدعم الخليجي وتراجع الدعم الدولي، وهو ما يخفي استياء سنّياً لغياب المظلة الخليجية والسعودية عن السنة عموماً في لبنان والحريري على وجه الخصوص.
عدم ترشح الحريري مشكلة، وترشحه مشكلة ايضاً، لصعوبة ايجاد المرشحين على لائحته، فالعلاقة مع النائب نهاد المشنوق تحولت الى قطيعة عدا عن أن الاخير سيحسم في غضون الاسابيع القليلة المقبلة ترشيحه من عدمه، والمرجح ايضاً عزوف النائب تمام سلام عن الترشح ما يعني غياب شخصيات لها وقعها السياسي وحضورها، فضلاً عن صعوبة تواجه "تيار المستقبل" في نسج تحالفاته وان كان لا يحتاجها في بيروت كما بقية المناطق. مسيحياً لم تعد تجمعه علاقة ودّ مع المكونين الاساسيين اي "التيارالوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، وشيعياً يعد دعم الصوت الشيعي له هدية سامة من وجهة نظر سعودية. وكان أغلب الظن انه وفي حال ترشح سيتحالف مع الاحباش لتأمين قرابة 17000 صوت.
الضبابية السنية وترجيح كفة الشيعة سيدفع ثمنها النائب المسيحي في "كتلة المستقبل" (ارثوذكسي)، ونائب "الحزب الاشتراكي" (فيصل الصايغ) الذي نجح الدورة الماضية بحاصل "المستقبل" الذي لم يعد محسوماً نيله هذه الدورة. نتحدث هنا عن 4800 صوت درزي ينتخب منهم نحو 1800 أي نسبة متدنية، ما يعزز وضعية "الحزب الديمقراطي" والنائب طلال ارسلان، اللهم الا اذا اختار الثنائي دعم مرشح الاشتراكي اكراماً لرئيسه وليد جنبلاط. لكن المعلومات تفيد ان جنبلاط بعث برسالة الى ارسلان يحذره من اللعب على ساحة بيروت والا جاء رده في عاليه. وزاد من قتامة المشهد أن "التيار" وحده لا يؤمن حاصلاً والأرمن منقسمون بين جمعيات واحزاب.
وسط تخبط الاحزاب الاساسية يحاول المجتمع المدني وضع ثقله في بيروت الثانية للحشد في الوسط المسيحي، وطموحه رفع نسبة الاقتراع في هذه الدورة بعد ان بلغت الدورة الماضية في الاشرفية 18 بالمئة. يرصد مراقبون ان كل الجهد يتركز حالياً على يمين الكرنتينا في محيط المرفأ حيث مجموع السنة يبلغ 5000 صوت يمكن العمل لاجتذابهم.
وإذا صح عزوف النائب تمام سلام عن الترشح للنيابة مجدداً، فيعني ايضاً اقفال بيت عائلة بيروتية عريقة، وتغير هوى بيروت الانتخابي نتيجة غياب الشخصيات الوازنة التي تركت اثراً على العاصمة بيروت، كصائب سلام ورياض الصلح وسليم الحص ورفيق الحريري، ومن المتوقع ان تغيب شخصيات كثيرة عن تمثيل بيروت في هذه الدورة، مسيحية وسنية على وجه الخصوص، لاختلاف الظروف وتعقيدات الوضع الاقتصادي، هذا في وقت فشلت شخصيات دخلت حديثاً الى الندوة البرلمانية في الاحتفاظ بموقعها، وفي أن تكون خياراً بديلاً للمسافة التي باعدت بينها وبين اهل بيروت، فضلاً عن غياب الاسماء الوازنة او الشخصيات التي يمكن ان تشكل ثقلاً سياسياً وحضوراً على اللوائح.
تقبل بيروت على الانتخابات واجواؤها ضبابية، على الساحتين السنية والمسيحية. فيما سيكون الصوت الشيعي مرجحاً مع تزايد اعداد الناخبين الشيعة ما يجعل الثنائي مرتاحاً على وضعه، لكن ماذا عن العلاقة مع الحريري في حال الترشيح او عدمه، وما هي خيارات الآخرين والتحالفات؟ وهل يبقى الحريري القديم على قدمه؟ الواضح حتى الساعة ان منسقيات "المستقبل" بدأت تعمل بخجل، ولم تنطلق بوتيرتها الاعتيادية بعد. ربّ قائل ان هناك متسعاً من الوقت لجلاء الصورة ذلك ان حماوة المعركة لا تبلغ ذروتها الا قبل شهرين من موعد الانتخاب.
لبيروت تفاصيل انتخابية كثيرة لم تتضح معالمها بعد، لكن التعقيدات المحيطة بالعملية الانتخابية والتحالفات والمرشحين تعزز مخاوف بعض الشخصيات البيروتية الوازنة، من ان لا انتخابات في الافق بالنظر الى تراجع شعبية التيارات السياسية الاساسية وضعف اللاعبين وغياب العنصر المالي، وكلها عوامل تنذر بتبدل المناخ الشعبي وتغيير كبير في خريطة التحالفات.