خالد أبو شقرا
يشي السياق العام للأحداث باقتراب "ولادة" زيادة الرواتب والأجور. فـ"المخاض" الذي بدأ مع ارتفاع هائل في الأسعار تخطى 1350 في المئة، ترافق مع أعراض "طلق" الاتحادات العمالية وروابط الموظفين، وإطلاقها صرخات لا تهدأ أو تستكين. ولم يعد أمام الدولة "الداية" من حلّ إلا الانصياع لعملية الولادة في غير أوانها، لتقاضي أجرتها قبل الانتخابات النيابية القادمة؛ ولو ولد الطفل ميتاً.
التسليم جدلاً ومن دون نقاش بعجز الأغلبية الساحقة من المواطنين (80%) عن تأمين أبسط متطلبات المأكل والمشرب في ظل هذا المستوى من الأجور والتقديمات، يقابله سؤال مغيّب عن جدوى الزيادات وانعكاساتها على التضخم. بمعنى آخر، تحديد الوقت الذي "يأكل" فيه ارتفاع الأسعار الزيادة المعطاة والعودة إلى النقطة التي انطلقنا منها؛ إن لم يكن أدنى. هذا من دون الأخذ في الاعتبار تعطل الحكومة وعدم بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ووقوف البلد على كف عفريت الوضع الأمني.
الحل نقدي
بكلام بسيط فان ما يُطرح عن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 7 ملايين ليرة وزيادة بدل النقل من 24 ألف ليرة إلى 100 ألف (يمكن القبول بـ 64 ألف ليرة) يمثلان زيادة الأجور 10 أضعاف والنقل 4 أضعاف. في المقابل فان الدولار الذي ارتفع بأقل من عامين من 2000 ليرة إلى 20 ألفاً، أي 10 أضعاف، قد يصل إلى 40 ألف ليرة في وقت قياسي. وعليه، فان بدل النقل سيعود وينخفض ليصل إلى 1.5 دولار، أي إلى رقم قريب من الرقم المحقق اليوم والبالغ 1.2 دولار (24000 ل.ل). هذا الواقع يظهر بما لا شك فيه أن "الأزمة نقدية، وعلاجها يجب أن يكون بالسياسة النقدية"، يقول الخبير الاقتصادي د. رازي الحاج. "لأن بقية العلاجات هي ترقيعية للنتائج وليست معالجة للأسباب".
مصدر التمويل
النقطة الثانية التي لا تقل أهمية في مسار تصحيح الأجور تتمثل في مصدر الأموال لزيادة الرواتب في القطاع العام، وقدرة القطاع الخاص على إعطاء الزيادات عند هذه المستويات من الانكماش (-10.5% بحسب تقديرات البنك الدولي).
- بالنسبة للقطاع العام "هناك فرق شاسع ما بين تمويل الزيادة من إيرادات محققة أو من خلال طباعة النقود"، برأي الحاج. "ففي الحالة الثانية ستؤدي طباعة النقود إلى المزيد من التضخم بالكتلة النقدية بالليرة، المتضخمة أصلاً، والتي ارتفعت من أقل من 5 آلاف مليار ليرة إلى أكثر من 40 ألف مليار حالياً. الأمر الذي سيزيد المضاربة على الدولار وسيؤدي في ظل غياب أي خطة إصلاحية، إلى تأخير بدء المفاوضات الجدية مع صندوق النقد الدولي وتدهور سعر الصرف أكثر وصولاً إلى الـ"لا سقف". أما في حال تمويل الزيادة على الرواتب من الايرادات العامة فيتطلب إصلاحات وقوانين وإجراءات مالية ونقدية، لم ولن تتخذ على ما يبدو، بسبب تسعير الخلافات، واصابة البلد بـ"حمى" الانتخابات. ولو كانت السلطة راغبة في إنصاف موظفيها لكانت اتخذت مجموعة من التدابير لتخفيض الهدر وزيادة الايرادات. كأن تعمد مثلاً إلى "إعطاء حسم بنسبة 25 أو حتى 50 في المئة على كل معاملات الانتقال وتقسيمها لتسهيل التسويات عليها، وتحفيز المواطنين لتخليص بقية المعاملات العالقة، بشرط التسديد نقداً... وغيرها الكثير من الاجراءات لمكافحة التهرب الضريبي"، برأي الحاج. و"من هذه الإيرادات من الممكن زيادة الاجور وبدل النقل".
- بالنسبة للقطاع الخاص فان عدم التمييز بين القطاعات المنتجة وتلك المتعثرة وإلزامها جميعها على زيادة الاجور وبدل النقل سيؤدي، بحسب الحاج، "إلى تخفيض عدد العمال. خصوصاً في القطاعات التي تعاني من ارتفاع الأكلاف التشغيلية وتراجع الانتاج. الأمر الذي سينعكس سلباً على البطالة وتكون نتائجه أخطر على الاقتصاد والمجتمع. فهو سيعمق الانكماش ويزيد نسب الفقر ومعدلات البطالة. من هنا أيضاً يرى الحاج "ضرورة إعطاء القطاع الخاص سلة من التحفيزات ليتمكن من زيادة الاجور والحفاظ على استمراريته. ومن هذه التحفيزات: تسوية ديون القطاع التجاري مع المصارف. واعطاء الشركات بعض الاعفاءات ومساعدتها على زيادة انتاجها وخلق فرص عمل".
المشاريع الداعمة
الاصلاحات في القطاعين العام والخاص يجب أن تترافق، من وجهة نظر الحاج، مع اتفاق سريع مع البنك الدولي والجهات المانحة من أجل تنفيذ 3 مشاريع أساسية تخفف من معاناة المواطنين وتساهم بتعزيز القدرة الشرائية وهي:
- تطوير النقل العام وتنفيذ المشروع على المستويين القصير والمتوسط. حيث يلحظ بالاضافة إلى تأمين وسائل النقل والمحطات إقامة سكك حديد وربط المدن اللبنانية، وتحديداً الساحلية منها، ببعضها البعض لتسهيل نقل البضائع والافراد. هذا المشروع لا يتطلب أكثر من مليار دولار تدفع لمرة واحدة ويستفيد منها كل الشعب اللبناني. وهناك خطط جاهزة للتنفيذ وقرض معد لهذه لغاية من البنك الدولي من الممكن البدء به.
- تنفيذ مشروع التحول الرقمي الذي أعدته وانجزته وزارة التنمية الادارية أيام الوزيرة مي شدياق. وهذا المشروع يخفف الكثير من الاعباء عن كاهل المواطنين والدولة على حد سواء.
- إصلاح قطاع الطاقة والمباشرة بالاستثمار في معامل الغاز لزيادة الانتاج.
هذه الحلول في ما لو جرى تطبيقها كانت لترفع الدخل الفردي تلقائياً بنسبة لا تقل عن 50 في المئة. إنما مع الأسف قد جرى إهمالها رغم وجود خطط جاهزة، وإهدار لبنان في العامين الماضيين نحو 20 مليار دولار على مشاريع الدعم الفاشلة والفساد والسماح بتهريب الأموال. ولو وظفت هذه الأموال بمشاريع الطاقة والنقل وتأمين الحماية الاجتماعية لما كان المواطنون ليشعروا بعبء الأزمة، ولكانت المفاوضات مع الجهات الدولية وتحديداً صندوق النقد الدولي قطعت أشواطاً كبيرة.
المشكلة التي يواجهها لبنان قد لا تنحصر بكون العلامات المبكرة لضرورة زيادة الأجور قد تكون خادعة، إنما أيضاً بامكانية أن يكون "حَمل" تصحيح الأجور خارج "رحم" الاقتصاد. الأمر الذي سينطوي على مخاطر تبدأ بزيادة الضغط على سعر الصرف، وتمرّ بارتفاع الأسعار وامتصاص الزيادة، ولا تنتهي بانعدام العدالة في تصحيح الأجور بين القطاعين العام والخاص وداخل كل قطاع بقطاعه على حد سواء.