جويل رياشي
«نحن في سنة 2021. من لايزال يحتاج للدفاع عن قضية البحث العلمي؟ نحن، للأسف».
هذه إحدى المعارك التي تخوضها د. تمارا الزين، مديرة الأبحاث والبرامج في المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان، التي كرمتها فرنسا قبل أيام بمنحها وسام السعفة الاكاديمية من رتبة فارس، تكريما لمسيرتها العلمية والمهنية بين لبنان وفرنسا، في احتفال اقيم في حرم السفارة الفرنسية، نوهت خلاله مديرة المعهد الفرنسي في لبنان ماري بوسكاي بجهود الزين في سبيل تعزيز الشراكة العلمية اللبنانية - الفرنسية.
لم تخف الباحثة اللبنانية في كلمتها خلال التكريم، حسرة على بلد «بنى تفرده على الجودة الاستثنائية لنظامه التعليمي والجامعي: فهل يجدر بنا أن نتذكر أنه بلا بحث لا توجد جامعة جديرة بهذا اللقب؟ وأنه بلا بحث لا يوجد نظام تعليمي قابل للتطبيق؟ وأنه بلا بحث لا توجد سيادة؟ (...) في الوقت الذي يتمحور فيه النقاش العلمي الدولي حول أسئلة تدور في فلك مستقبل البشرية، مثل تسليع المعرفة، أو تشيئ العلم، أو جعل البحث متمحورا حول قضايا الكوفيد فقط، وقضايا ما بعد الإنسانية وما قبلها واخرى عن خوارزمية الإنسان، فإن المجتمع العلمي اللبناني لايزال يكافح، في سياق الانهيار، لتبرير وجوده».
«الأنباء» التقت المُكرَّمة على هامش الحفل وكانت دردشة عن شغفها الثلاثي «البحث العلمي، الخدمة العامة ولبنان» الذي قررت ان تبقى فيه رغم كل الظروف.
ماذا يعني لك التكريم عموما؟ والتكريم الفرنسي خصوصا؟
٭ التكريم بشكل عام هو نوع من التقدير لجهود بذلت في مجال معين، وفي حالة السعفة الأكاديمية من الدولة الفرنسية، قيمتها تكمن في انها تقدير لمساري الأكاديمي والعلمي ولمساهمتي في تعزيز التعاون العلمي والبحثي بين لبنان وفرنسا من خلال عدة برامج عملت فيها ومن خلالها على تمتين الشراكات العلمية مع جامعات ومؤسسات علمية فرنسية. بكل تأكيد هذا الوسام هو مصدر فرح بالنسبة لي وأيضا حافز إضافي لمتابعة النشاط العلمي والتعاوني خاصة في ظل الأزمات التي يمر بها لبنان.
لبنان يعاني أزمة اقتصادية واجتماعية حادة صنفها البنك الدولي من بين الأسوأ عالميا منذ 1850. كيف انعكست هذه الأزمة على الباحثين اللبنانيين والبحث العلمي في البلاد؟
٭ الأزمات التي نمر بها حاليا أضافت لمعاناة المجتمع العلمي اللبناني فحتى في السنوات «الهادئة» السابقة لم يكن البحث العلمي من أولويات سياسة الدولة ولكننا كنا قادرين عبر المجلس الوطني للبحوث العلمية على التأسيس لجو علمي نشيط ترجم بتنشيط عدة برامج بحثية داخل لبنان بالتعاون مع كبرى الجامعات وخارجه مع شركاء كثر فاعلين. ما يحصل منذ سنتين تقريبا، وخاصة مع الأزمة المالية الحادة، هو نوع من تباطؤ إن لم نقل شلل في المنظومة البحثية لأن البحث العلمي يتطلب إمكانيات مهمة لم يعد بإمكاننا تغطيتها من الموازنات اللبنانية إن لم تقترن بشراكة مع مؤسسات خارجية. وفي هذا الإطار تحديدا وضمن جهوده لمجابهة الأزمة، كانت البرامج التي أطلقها المجلس الوطني للبحوث العلمية مع الوكالة الجامعية للفرنكفونية وتلك التي أطلقها مع الوكالة الفرنسية للبحوث. يمكن القول بأن هذين البرنامجين ساهما بشكل كبير في الإبقاء على نشاط بحثي حي ولو كان محدودا. أما الأخطر من ناحية ارتدادات هذه الأزمات فهو هجرة الباحثين بحثا عن فرص في الخارج تضمن لهم مسيرة علمية فاعلة تتيح لهم التقدم كما يطمحون.. هذه الهجرة تشكل خسارة فادحة في الاستثمار العلمي إن كان من قبل الجامعات أو من قبل الباحث نفسه.
يعرف عنك العمل عن كثب لتعزيز دور المرأة في البحث العلمي. هل تم تحقيق تقدم في هذا المجال؟ وكيف يمكن تعزيز دور الباحثة في مجتمعات يهيمن فيها الرجال عموما؟
٭ في البيئة العلمية، كما الكثير من القطاعات، يبدو حضور العنصر النسائي ضامرا مقارنة بالرجال إلا أن الأرقام ليست سيئة مقارنة مثلا بأوروبا! المشكلة فعليا في ضعف حضور المرأة في مراكز القرار الأكاديمي والبحثي مما يجعل الصورة والانطباع لصالح الرجل. قلب هذه الصورة يحتاج لعمل تراكمي ويحتاج سنوات وسنوات إلا أنه من الضروري تسليط الضوء أكثر وأكثر على إنجازات النساء العلمية كي يشعرن أكثر وأكثر بأهمية مساهماتهن بما يشكل لهن دافعا إضافيا.
تتحدثين دائما عن الطفيليين في العلم ومنتحلي صفة الخبراء ومدى تأثيرهم على الرأي العام وخصوصا في عصر السوشيال ميديا. من هم هؤلاء؟ وما السبيل إلى تحجيم هذا التأثير وإبراز دور العلماء الحقيقيين؟
٭ كما أشرت في كلمتي أثناء حفل التكريم، تهميش الباحثين الحقيقيين وعدم الأخذ بنتاجهم العلمي يخضع المجتمع لسلطة المفكرين المزيفين ومنتحلي صفة الخبرة اي لسلطة الدجالين والتافهين. مرد هذه الكارثة أيضا لغياب التواصل بين العلميين والمجتمع وضعف الثقافة العلمية بشكل عام ولعدم وجود إعلام علمي متخصص، دون أن ننسى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت المساحة للمشعوذين الذين يلعبون على التهويل والإثارة والشعبوية.. لتحجيم هذا التأثير علينا العمل على معالجة الأسباب التي ذكرتها مثل تعزيز مبادرات تتيح التواصل بين العلميين والمواطنين والعمل على تنمية ثقافة المواطن خاصة في المواضيع العلمية التي تعنيه مباشرة.. وشخصيا أرى ان هناك دورا كبيرا لوسائل الإعلام المرئية والمكتوبة التي عليها تفعيل برامج تعنى بالتثقيف العلمي ضمن إطار جذاب أو على الأقل الالتزام بعدم إفساح المجال إلا لأهل الاختصاص.. للأسف وباء كورونا كان إنذارا عن وجوب التنبه!
بعد جائحة كورونا وإدراك العالم لأهمية العلم والبحث والعلماء، هل لمستم تغييرا في النظرة الى عمل الباحثين في لبنان والمنطقة؟
٭ الحقيقة ان مرحلة الوباء كشفت عن كل التناقضات فيما يخص نظرة المجتمع لأهمية العلم. في فرنسا مثلا أظهرت الدراسات تراجعا في ثقة الناس بالعلميين وفي نفس الوقت عبروا عن اعتقادهم بوجوب متابعة البحوث في المجالات التي تشكل تحديات مصيرية! في لبنان، لمسنا أيضا نوعا من التناقض في النظرة إلى الباحثين: بدا المواطن متعطشا للاستماع إلى آراء الباحثين وفي الوقت نفسه متذمرا من تضارب المعلومات الذي فعليا هو ظاهرة طبيعية نتيجة السرعة في بعض البحوث ونشر النتائج قبل التأكد الدقيق منها وهو ما فرضه الفيروس المستجد وعدم وجود معطيات كافية. في هذه النقطة تحديدا، على المواطن والسلطات ايضا ان يدركوا أن البحث العلمي هو عمل تراكمي يحتاج لسنوات وسنوات وان البحوث، كي تؤتي ثمارها خاصة في مواجهة أزمة طارئة كالوباء، عليها أن تبني على بحوث سابقة وعلى جهود مستمرة عبر الزمن. لا يمكن إهمال البحوث في الظروف العادية ومن ثم الطلب من الباحثين إيجاد حلول سحرية في مدة زمنية قياسية كأيام أو شهور!