نبيل هيثم
تشي الوقائع المتدحرجة حول التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، انّ الاشتباك السياسي المحتدم يسلك آخر الطريق الى منعطف اللاعودة، التي يصعب معها تقدير ما ستؤول اليه حال لبنان في الآتي من الأيام. ما جرى بالأمس، في الطيونة وجوارها، أعاد الى الأذهان مشاهد الحرب الاهليّة والمحاور والمتاريس التي قسّمت اللبنانيّين، وفتح جرحاً خطيراً، وضع لبنان وطناً ودولة وشعباً على كف عفريت، وأعاد تثبيت القطار اللبناني على السكّة المؤدّية الى الجحيم. وهو ما يطلق السؤال: لماذا ولأي هدف يُدفع البلد الى أتون نار قد تحرق الأخضر واليابس فيه؟
ثمة مؤشرات ووقائع تدعم الإعتقاد بأنّ ما حصل في الطيونة وجوارها بالأمس، أوصل لبنان الى درجة من الإنحدار والقلق، تتجاوز بكثير أزمة تحقيق عدلي، ونقله الى واقع جديد باتت فيه كل عوامل الاطمئنان مفقودة وكل عوامل التفجير السياسية والطائفية والمذهبية موجودة.
لقد صرنا أمام مشهد داخلي، بلا ضوابط تمسكه، يسير بسرعة جنونية على نحو ينذر بشرور خطيرة، على بلد منكوب بدأ انهياره الكبير يلوح اكثر من اي وقت مضى من انفجار الطيونة، الذي وضع هذا البلد امام خطر وجودي. فهل هذا ما يريده تجار ومحترفو الحرب الاهلية.. وماذا لو وقعت الواقعة وأفلتت الامور من ايدي الجميع، فهل سيجد هؤلاء مكاناً لهم فوق ركام البلد؟
وكما هو واضح، فإنّ الخوف هو عنوان البلد. واقعنا اللبناني بات حلبة علنيّة لمواجهة مفتوحة، في ظل الإنحدار الرهيب الى لغة الرصاص والقذائف، والتوقّعات القاتمة، وكثرة الحديث عن سيناريوهات صعبة، صاغ حروفها الأولى التراشق الثقيل بين مذكرات وادّعاءات المحقّق العدلي طارق البيطار، وبين حركة «أمل» و»حزب الله» اللذين اعلناها «معركة دفاعيّة مفتوحة ضدّ استهداف سياسي ظالم».
في عودة الى فتيل التفجير، فمسار التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت يبدو انّه ثابت على المنحى الذي انتهجه المحقق العدلي. اما في المقابل، فإنّ ثمة «نقزة» متعاظمة منه. فلدى ثنائي حركة «امل» و»حزب الله» شعور يفوق الخيبة «من انحراف التحقيق عن مسار كشف حقيقة من فجّر المرفأ، وسلوكه مساراً يلعب بأعصاب البلد ويفتح جروحاً لا تندمل».
وعلى ما يقول عارفون، فإنّ الرؤية باتت شديدة الوضوح من هذا الجانب «لكلّ ما جرى يوم امس في الطيونة وجوارها، ولكل ما جرى ويجري في مسار التحقيق وما تقوم به غرفة العمليات التي تدير دفّة التحقيق، واللي فيها ناس منهم وفيهم ومعهم أجانب بيحكوا فرنسي وانكليزي، والتي تستدعي من تستدعي وتلتقي به في السرّ وتوجّهه وتطلب منه إفعل كذا وكذا..».
وبحسب هؤلاء، فإنّ لدى الثنائي «يقيناً لا يرقى اليه شك بوجود نوايا خبيثة مبيّتة.. نريد ممّن يدّعون الحرص على كشف الحقيقة ان يفسّروا لنا، هل هي صدفة ان يلتقي المحقق العدلي وفداً اجنبياً بعدما أصدر مذكرة التوقيف بحق النائب علي حسن خليل؟ وهل هي صدفة أن يلتقي وفداً اجنبياً بعدما أصدر مذكرة التوقيف بحقّ الوزير السابق يوسف فنيانوس»؟
من هنا، تؤكّد اوساط قريبة «انّ ما يجري، لا ينبغي لأحد أن يستهين به. فهذا التحقيق ليس حياديّاً على الإطلاق، ولا يرمي الى كشف الحقيقة ابداً، بل التعمية عليها. كنا طلبنا اليه الّا يستمع الى من يهمس له، ولكن ثمة اصراراً على المنحى المريب، وتجاوز ما ينص عليه الدستور اللبناني حول محاكمة الرؤساء والوزراء، وكذلك القانون الخاص في هذا الشأن، وكل الاستشارات من حقوقيين واجتهادات دستوريين فرنسيين، وما ينص عليه الدستور الفرنسي حرفياً، لجهة انّ صلاحية محاكمة الرؤساء والوزراء هي حصراً من صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء المؤلف من 7 نواب و8 من أرفع القضاة في لبنان ويرأسه أرفع القضاة رتبة ودرجة بينهم. علماً انّ ثمة سوابق عديدة في محاكمات جرت في اوقات سابقة امام المجلس الأعلى، وشملت الرئيس امين الجميل، الرئيس فؤاد السنيورة، الوزير السابق علي عبدالله، والوزير السابق شاهيه برصوميان.
وتضيف الأوساط عينها، «إنّ ما يجري في ملف التحقيق امرٌ لا يصدّق، ، فأمام المحقق العدلي كل تلك الامور وبكل وضوح، ولكنه يتجاهلها، ويصرّ على الاستنساب واختيار اشخاص معينين، علماً انّ المحقق العدلي الذي سبقه قدّم لائحة اسماء طويلة عريضة، فلماذا هذا الاستنساب، ومن أوحى به؟ واكثر من ذلك، تعمّد إهانة الرئاسة الثالثة بالطريقة التي تعامل معها مع رئيس الحكومة السابق حسان دياب..».
ويضيف صاحب هذا الكلام: «لقد سبق وحذّرنا، ولكن مع الأسف فإنّ هذا المنحى مستمر برغم انّه اوصل الى مشكلة كبرى. التي ليس لها سوى مخرج وحيد وبسيط، يبدأ وينتهي عند كفّ يد هذا القاضي واستبداله، وهذا ليس بالامر المستحيل كما يدّعون. وما لم تُحلّ هذه المسألة على هذا النّحو، فإنّ وزراء «أمل» و»حزب الله»، بالتأكيد لن يشاركوا في الحكومة. وأكثر من ذلك نقول بكل صراحة، انّه إذا استمر هذا المنحى من الاستهداف السياسي على ما هو عليه، ولم تُرفع البطاقة الحمراء لوقف المحقق العدلي، فإنّ أولى الواجبات هو تغيير الدستور اللبناني، وتعديله، بحيث تُحذف منه مجموعة من المواد التي تجاوزوها وضربوا بها عرض الحائط».
ويورد صاحب هذا الكلام في هذا السياق ما يسمّيه كلاماً مسؤولاً، يقول: «مخطئ من يعتقد أنّ هذه المسألة سهلة، هي ليست لعبة، إنّ ما يجري هو ظلم موصوف، ونحن لن نقبل بهذا الظلم، بل لن نسمح بأن يقع الظلم علينا او نرضخ له. والله حرّم إيقاع الظلم بالآخرين، وللظالم حساب في الدنيا والآخرة».
على انّ اخطر ما يلفت اليه، هو انّ الوضع في منتهى الخطورة، ويؤكّد انّ الفتنة لم تعد تلوح في أفق البلد، بل صارت موجودة، وثمة جهود خارقة تُبذل لوقفها ومنع تفاعلها. فالشارع بشكل عام متوتر، سواء الشارع الشيعي، او الشارع السنّي الذي يبدو في هذه الفترة في ذروة غليانه. فكيف يمكن لهذا الشارع ان يرضى بأن يُستهدف رئيس حكومة ويُهان بهذا الشكل هكذا من باب الافتراء، والمراجع السنّية ودار الفتوى تقول كلاماً كبيراً بهذا المعنى، وسبق لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ان أصدر بيانين شديدي اللهجة رفضاً لاستهداف رئاسة الحكومة، ولكن من دون ان يعبأ المحقق العدلي بهما».
قبل فترة قصيرة، كما تلفت الاوساط القريبة، طُرح اقتراح مخرج لأزمة التحقيق العدلي يقول برفع كل الحصانات وذهاب الجميع الى القضاء، اما وبعد ما حصل في ملف التحقيق وتوجيه مساره في اتجاه الاستنساب ومخالفة الأصول القانونية والدستورية، فلم يعد احد متحمّساً لهذا الإقتراح، ذلك انّ القاضي الموجود، برأي المستهدفين بالاستنساب، ليس قاضياً محل ثقة، بل هو يستغل موقعه ومهمته - التي يفترض انّها حيادية، تتوخّى فقط كشف حقيقة المتورطين الحقيقيين في انفجار مرفأ بيروت - لتحقيق غايات وأهداف سياسية اخرى، ترسمها له غرفة سوداء، بعيدة كل البعد عن النزاهة والعدالة والحقيقة.
كلمة أخيرة تُوجَّهها الأوساط عينها الى كل من يجب عليه ان يسمع وفيها: «إنّ الأمّي والجاهل - حتى لا نقول صفات أبعد منها - يعرف انّ الدستور أقوى من القانون. فالدستور امامكم، فالتزموا نصوصه، ولا يظنّنَ أحد انّ في إمكانه أن يقزّم دور وموقع وهيبة المجلس النيابي، الذي لن يسمح بشكل من الأشكال القفز فوقه وتجاوز صلاحياته او إخضاعه لأعراف جديدة تُسوّق تحت عناوين سياسية وشعبوية وخارج أي اصول دستورية وقانونية».