جاسم عجاقة - الديار
مهام المصارف المركزية في العالم الليبيرالي هي نفسها، لكنها تختلف بحسب الأولويات التي تضعها القوانين التي أُنشئت بموجبها هذه المصارف. فالمصرف المركزي الأوروبي يضع الثبات النقدي على رأس أولوياته وثانيها تحفيز النمو الإقتصادي، في حين أن الإحتياطي الفديرالي الأميركي يضع تحفيز الإقتصاد وخلق فرص العمل كأولوية والثبات النقدي في المرتبة الثانية. أما في لبنان، فيأتي الثبات النقدي في المرتبة الأولى من ناحية الأولويات كما نصت عليه المادة 70 في قانون النقد والتسليف، ويأتي دعم الإقتصاد في المرتبة الثانية ودعم القطاع المصرفي والمحافظة عليه في المرتبة الثالثة وتطوير الأسواق المالية في المرتبة الرابعة.
الثبات النقدي هو التبرير الإقتصادي لإستقلالية المصارف المركزية وسبب وجودها. فإلزام البنك المركزي بطبع العملة من غير ضرورة ونظرة اقتصادية ثاقبة من قبل الحكومة هو كضريبة مخفية على المواطن وهي أمر منافٍ لمبدأ الديموقراطية وبالتالي تمّ منعه عبر إعطاء المصارف المركزية إستقلالية كاملة في سياساتها النقدية. أكثر من ذلك تم إثبات العلاقة العكسية بين إستقلالية المصرف المركزي والتضخم وذلك في العديد من دول العالم.
الثبات النقدي ضرورة للثبات الإجتماعي والإقتصادي، إذ إن اتساع الفقر هو من النتائج السريعة والبديهية لفقدان الثبات النقدي ومن ثم تتهاوى الإستثمارات مع فقدان العملة الوطنية من قيمتها لذا تهدف السياسات المالية للحكومات (لا السياسة النقدية التي هي من مهام المصارف المركزية) إلى تعزيز الإقتصاد وتحفيز النمو لضمان الثبات النقدي.
يتحقق الثبات النقدي بحسب النظرية الإقتصادية من ثبات النمو الذي هو عبارة عن خلق للثروات يقوم المصرف المركزي بترجمتها إلى عملة عبر طبع عملة موازية لهذا النمو كحدٍ أقصى مع الأخذ بعين الإعتبار المتغيرات الإقتصادية والمالية والنقدية في المرحلة المقبلة. وبالتالي أي ثبات نقدي يجب أن يكون نتاج نمو إقتصادي مستدام لما في ذلك من دعم للعملة الوطنية مقابل العملات الصعبة في الإقتصادات المفتوحة.
في غياب سياسات مالية (من مسؤولية الحكومات)، يفقد البلد الثبات النقدي وهذا أمر حتمي! وبالنظر إلى الماضي نرى أن السياسات المالية للحكومات اللبنانية مُعطّلة منذ عقود بسبب الصراعات السياسية التي تعصف بلبنان وأكبر دليل على ذلك فترات الفراغ الرئاسي والحكومي والحروب التي عصفت بلبنان منذ نهاية الحرب الأهلية وحتى اليوم.
على هذا الأساس وبناءً لتوجّيهات الحكومات المُتعاقبة (البيانات الوزارية)، قام المصرف المركزي اللبناني بتثبيت سعر صرف الليرة مُقابل الدولار عبر استخدامه آليات السوق – أي العرض والطلب والتدخّل في السوق على هذا الأساسي وقد ساعد المركزي على نجاح هذه السياسة تدفق العملة الصعبة إلى البلاد إن بواسطة التحويلات الخارجية أم بواسطة إصدارت اليوروبوند. وبما أن الإقتصاد اللبناني هو إقتصاد حرّ بتعريفه بالدستور، عمد المصرف المركزي إلى خلق هامش يسمح من خلاله لسعر صرف الليرة اللبنانية بالتحرك ضمن هامش محدد فلا يتدخلّ إلا إذا تم خرق هذا الهامش صعودًا أو نزولاً. ولإتمام هذه المهمة قام مصرف لبنان بتكوين إحتياطي إلزامي هائل وأمّن مصادر تمويل خارجية عبر فتح القطاع المصرفي اللبناني على النظام المصرفي العالمي.
لا يمكن لأحد نكران أن المواطن اللبناني عاش بأمان إجتماعي من العام 1997 وحتى العام 2019. وإذا كان البعض يقول ان اللبناني عاش فوق قدراته المالية، فهذا القول نابع من «منّيّة» تجاه المواطن اللبناني ونكران أن تأمين الثبات النقدي هو واجب على الحكومات وعلى المصارف المركزية تجاه المواطن اللبناني.
فالدولارات التي دخلت إلى النظام المصرفي اللبناني (ودائع وإستثمارات بالدرجة الأولى) موّلت الإستيراد وإنفاق الدولة اللبنانية. وبدون هذه الدولارات ما كان للبنان القدرة على الإنفاق، فمثلًا كان مصرف لبنان يؤمّن ما بين مليار ونصف وملياري دولار سنويًا لشراء فيول لشركة كهرباء لبنان، كما أن السلّك الديبلوماسي اللبناني في الخارج يتمّ تمويله من الدولارات في القطاع المصرفي، والأهمّ يبقى أن هذه الدولارات موّلت الإستيراد الذي وصل إلى مستويات كارثية في العقد الأخير بحيث فاقت الحاجات المحلية، وتجلت في الفترة الأخيرة في عمليات التهريب وتحقيق الأرباح الطائلة من خلال البون الشاسع بين الكلفة المدعومة والبيع الاستغلالي.
ومن الأخطاء الملحوظة في الحكومات المتعاقبة أنها لم تقم برفع الرسوم الجمركية بهدف لجم الإستيراد، وبالتالي تمّ صرف أكثر من 100 مليار دولار أميركي في الست السنوات التي سبقت إندلاع الأزمة. وحين طالب أحد الوزراء في العام 2019 برفع الرسوم الجمركية، قامت الدنيا ولم تقعد من قبل زملائه! المستفيدون الأول من تلك الدولارات كان المستوردين الذين قاموا بعمليات تهريب للبضائع واستفادوا بأرقام خيالية موّلت منظومة قائمة بكل أبعادها!
هل المسؤولية تقع على سياسة تثبيت سعر الصرف؟
الجواب يفرض عددًا من التوضيحات:
أولا – الثبات النقدي – الذي هو حجر الأساس في ثبات الأسعار – هو شرط من شروط الأمن الإجتماعي. وبالتالي هناك ضرورة لهذا الثبات سواء كان آتيا من السياسة المالية للحكومة أو من السياسة النقدية للمصرف المركزي. والحل الأمثل هو العمل التناغمي بين السياستين أي أن تدعم إحداهما الأخرى.
ثانيًا – الثبات النقدي على أهمّيته القصوى وفي ظل غياب رقابة من قبل السلطة التنفيذية، سمح لفئة من اللاعبين الإقتصاديين بالإستفادة من هذا الثبات من أجل تعظيم ثرواتهم. نذكر من بين الإجراءات التي كان على الحكومات المتعاقبة أخذها: وقف التهريب، خلق منافسة شريفة وعادلة بين التجار…
ثالثًا – الأزمة التي عصفت بلبنان منذ العام 2019 وحتى يومنا هذا، تؤكّد المؤكد – أي ضرورة وجود ثبات نقدي! وهذا الأمر يجب أن يكون من خلال النمو الإقتصادي الذي تحركه السياسات المالية للدولة.
رابعًا – أثبتت دراسة علمية أن كلفة تثبيت سعر صرف العملة على الإقتصاد في الدول التي تعاني من عدم ثبات سياسي وأمني هي أقل من كلفة تحرير العملة. في المقابل كلفة تثبيت سعر صرف العملة على الإقتصاد في الدول التي تنعم بالثبات السياسي والأمني، أكبر من كلفة تحرير العملة. الجدير ذكره أنه في مرحلة من المراحل، دخل مصرف لبنان كشار للعملة الصعبة وهو ما يدلّ على وفرة العملة الخضراء أنذاك، وكان الأجدى بالحكومات والمصارف إستثمار هذه الأموال في الإقتصاد وهو ما كان ليعود بالفوائد على الإقتصاد مع إستثمارات غير مكلفة.
من هذا المنطلق لا يُمكن القول ان تحميل مسؤولية الخلل في السياسات المالية (للحكومات) وسوء إستخدام النظام المالي والنقدي من قبل بعض الإنتهازيين، على عاتق الثبات النقدي.
هل يُمكن القول ان مستوى سعر صرف 1500 ليرة لبنانية يحمل مسؤولية في الأزمة؟
عند طرح سعر صرف 1507.5 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي في تسعينات القرن الماضي، كانت تدفقات الدولارات إلى النظام المصرفي اللبناني تسمح بهذا السعر الذي هو نتاج حسابات مصرفية مبنية على ديناميكية التدفقات. اليوم وبعد وقف دفع سندات اليوروبوندز، إنعزل لبنان عن النظام المالي العالمي وبالتالي قلّت وتيرة الدولارات وهو ما يجعل سعر صرف 1507.5 غير ممكن بعد الأن إلا إذا تغيّرت المعطيات المالية.
السياسة النقدية للمرحلة للمقبلة هي مرحلة تحرير سعر صرف الليرة مع نهج موجّه أي تدخل من قبل مصرف لبنان في حال وجود فجوات بين العرض والطلب، وهو ما يُشكّل أرضية صلبة لإنطلاقة الإقتصاد لأنه من المستحيل التفكير بعودة الإقتصاد إلى الإزدهار في ظل أرضية غير صلبة ، عنيت بذلك الفلتان بسعر صرف الليرة. هذا الأمر يفرض على مصرف لبنان إعتماد الهدف الوسيط «هدف التضخم» وليس «مجلس النقد» الذي سيزيد من الأزمة ويتعارض مع مطالب صندوق النقد الدولي.
ماذا عن الودائع، هل اختفت؟
الجواب الأول يأتي من الدستور الذي يُقدّس الملكية الفردية وبالتالي لا يُمكن المس بالإلتزامات تجاه المودعين. لكن المُشكلة تكمن في تراجع التدفقات المالية من العملات الصعبة وهو ما يجعل التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وإعادة فتح أبواب الخليج، وخفض إنفاق الدولة من العملة الصعبة، ولجم التهريب… أموراً أكثر من ضرورية لإعادة إدخال تدفقات جديدة تسمح بسد الودائع من جهة وبتمويل الإستيراد من جهة أخرى بإنتظار إعادة هيكلة الإقتصاد.
إن نكران الدولة لدينها العام بالعملة الصعبة والبالغ 53 مليار دولار أميركي سيكون له تداعيات على الودائع. وبالتالي هناك إلزامية إعتراف الدولة بديونها حتى تستطيع التفاوض مع المقرضين بهدف إيجاد حلّ لا يمس بالودائع مهما كانت الظروف.
ومن هنا يمكن ملاحظة التناقض بين الطلب بحماية الودائع وتفليس البنوك وشطب ديون الدولة اللبنانية؛ إذ الانطلاقة يجب أن تكون برد الحقوق إلى أهلها بصفة عادلة وشفافة وتحميل أصحاب الخلل والتقصير مسؤولية أخطائهم لا تبرئة الظالم وتغريم المظلوم، فقد فقد المودعون الكثير من أموالهم عبر سحبها على سعر صرف 3900، وذلك لاضطرارهم لذلك بغية تغطية حاجياتهم لا إقراراً بأحقية وعدالة هذه السحوبات.
إن الحلول الممكنة كثيرة وتبقى الإرادة هي المطلوبة لتأمين وتطبيق هذه الحلول، فهل من نية لذلك؟