ولدت حكومة «معا للإنقاذ» تحت مظلة تفاهم إيراني - فرنسي، مع غض طرف أميركي من جهة، وفي ظل عودة سورية إلى الحظيرة العربية من بوابة الأردن والاقتصاد من جهة ثانية، ومجمل هذه التطورات ساهمت في تفعيل عملية تطبيع العلاقات بين سورية ولبنان ونقلها إلى مستويات رسمية وسياسية ودفعها قدما إلى الأمام.
هذه العملية انطلقت من بوابة الاقتصاد أيضا، وتحديدا من مشروع الغاز العربي والربط الكهربائي من مصر والأردن إلى سورية ولبنان، وبموافقة أميركية ضمنية عبر التخفيف من قيود «قانون قيصر»، وأخذت في آخر أيام حكومة دياب طابعا رسميا للمرة الأولى منذ العام 2011 عبر زيارة وفد حكومي إلى دمشق، فيما تتأهب العلاقات اللبنانية - السورية مع بدايات حكومة ميقاتي الى دخول مرحلة جديدة عنوانها تطبيع العلاقات وعلى كل المستويات: زيارة وفود وزارية، إحياء المجلس الأعلى اللبناني - السوري، زيارة وفود طائفية شعبية مثل الوفد الدرزي، إلخ... وكل ذلك بتأييد صريح من الرئيس ميشال عون الذي يريد أن يكون لبنان أول الدول العربية المنفتحة على سورية لا آخرها، والذي يحتفظ بعلاقة واتصالات مع الرئيس بشار الأسد بوتيرة منتظمة. ويحصل ذلك أيضا بموافقة ضمنية من الرئيس نجيب ميقاتي الذي لا يتصدى لهذا المسار ولكنه لا ينخرط فيه بشكل مباشر، ولا نية لديه ولا خطط لزيارة دمشق التي لا يزورها مادامت هناك عقوبات دولية على سورية تمنع زيارته وتعرض لبنان لمخاطر بسبب هذه الزيارة.
أما الرئيس نبيه بري، فإنه الأكثر برودة والأقل تفاعلا مع عملية التطبيع المستجدة والمتجددة. ورغم مشاركة وزرائه في زيارات دمشق، ورغم النبرة الإيجابية التي صدرت عنه تجاه سورية وجيشها والعلاقة معها في خطاب 31 أغسطس الماضي (ذكرى الإمام موسى الصدر)، تستمر أجواء الجفاء بين بري والقيادة السورية، والتي تصل إلى حد تلاشي العلاقة الشخصية والتواصل المباشر بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد.
هذا التراجع في مسار العلاقة كان بدأ بعد سنوات من تسلم الرئيس بشار الأسد ولأسباب مختلفة كان من أبرزها دعم الأسد لانتخاب العماد إميل لحود رئيسا للجمهورية، بخلاف رغبة بري الذي كان يفضل آخرين أبرزهم النائب الراحل جان عبيد، وسياسة بري المتبدلة تجاه سورية بعد انسحابها من لبنان بانحيازه الى الحريري وتخليه الكامل عن لحود. ولكن سببين مباشرين لعبا سلبا في التأثير على مناخ العلاقة الثنائية: الأول يتصل بموقف الرئيس بري من الحرب التي شهدتها سورية منذ العام - 2011، وجاء أقل من المستوى الذي أرادته وانتظرته دمشق التي تأخذ على بري، ليس في عدم مساهمته عمليا في هذه الحرب عبر إرسال مقاتلين من حركة «أمل» كما فعل حزب الله ولم يكن هذا هو المطلوب، وإنما في موقفه السياسي المشكك في صمود الأسد وأن يكسب الحرب، ولكن يبقى أن موقف بري يظل أخف وطأة من موقف جنبلاط الذي كان ينتظر على ضفة النهر، وأن انتقاد دمشق لبري يظل انتقادا خفيفا ومحمولا مقارنة بالانتقاد الذي وجه الى حركة حماس التي لم تشارك في الدفاع عن النظام السوري وذهبت الى أبعد من ذلك بدعم وتشجيع المعارضة السورية.
السبب الثاني يتعلق بمسألة هنيبعل القذافي الذي وصل الى دمشق بعد سقوط حكم والده معمر القذافي ومكث فيها - بصفة لاجئ سياسي، ومن ثم أصبح في لبنان معتقلا في أحد السجون، بعدما جرى استدراجه وسجنه على خلفية معلومات وعلاقة له بقضية اختفاء الإمام الصدر، وظل الرئيس بري رافضا الإفراج عنه وغير متجاوب مع المطلب السوري باسترداده من خارج أي تسويات وصفقات.
إذا كان دور الرئيس بري طرأت عليه تبدلات ملحوظة منذ العام 2016 عام التسوية الرئاسية ووصول الرئيس عون إلى قصر بعبدا، وتراجع حجم تأثيره على مجرى الأحداث والاستحقاقات بدءا من قانون الانتخابات عام 2018، مرورا بفشل الحريري في تشكيل الحكومة، وصولا الى «التسوية الحكومية» بين عون وميقاتي برعاية حزب الله.. فإن هذا التبدل في وضعية بري يعزوه كثيرون الى علاقته الصعبة والسيئة مع دمشق، والتي تحتاج الى تصحيح وتصليح عشية استحقاقات نيابية ورئاسية حاسمة يخوض فيها بري معركتين: معركة الاستمرار في رئاسة مجلس النواب لولاية جديدة و«مدى الحياة»، ومعركة حيازة صفة ومواصفات ناخب أساسي ومؤثر في معركة رئاسة الجمهورية المقبلة.