طوني عيسى
في قضية الغواصات الفرنسية التي كان مقرّراً أن تتزوّد بها أوستراليا، تلقّى الرئيس إيمانويل ماكرون أعنف ضربةٍ على الإطلاق من حليفه الأطلسي الأكبر، جو بايدن. حتى «الخصم اللدود» دونالد ترامب لم «يطعنه في الظهر»- وفق تعبير وزير الخارجية جان إيف لودريان- كما فعل الصديق المقرَّب بايدن. لكن ما ظهر من الخلاف فوق الماء، هو «رأس الغواصة». وفي العمق يدور صراع سيخرج إلى العلن وليس سهلاً إخماده. فهل يكون هذا الصراع من حُسن أقدار الشرق الأوسط أو من سوئها؟
الآن، اتضحت أكثر خلفيات القرار الأميركي وقف التورُّط في وُحول الشرق الأوسط، من أفغانستان شرقاً إلى لبنان غرباً، مروراً بالخليج والعراق وسوريا. فالمطلوب هو ترك شعوب المنطقة تتخبط بمشكلاتها أو تعالجها بنفسها، على أن تحتفظ الولايات المتحدة بالحدّ اللازم من النفوذ، وتدير الأمور عن بُعد.
لقد كلّفتها أزمات الشرق الأوسط، على مدى عشرات السنين، آلاف المليارات من الدولارات وآلاف الجنود، وشغلتها عن مناطق أخرى في العالم باتت اليوم أكثر حساسية من الناحية الاستراتيجية، خصوصاً بعد تنامي العملاق الصيني اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. ولذلك، يريد الأميركيون خلط أوراق المصالح ورسم خرائط النفوذ مجدداً.
تبيَّن أنّ بايدن، كما ترامب قبله، يلتزم الرؤية الاستراتيجية التي ترسمها دوائر القرار الأمني والاقتصادي في واشنطن، وهي تراعي المصلحة القومية العليا، وعلى الإدارة أن تسير عليها، سواء كانت للديموقراطيين أو للجمهوريين.
وفق هذه الرؤية، الانسحاب من أفغانستان يهدف إلى إراحة الولايات المتحدة من الأعباء ورميها على الآخرين، ولاسيما الصين. ففي حساب واشنطن، أنّها اضطلعت، «من كيسها»، بدور الشرطي في بؤرة توتر مستدام من دون أن تحصد أي ثمار. وعلى العكس، الثمار سيقطفها الصينيون من خلال طريق الحرير المسمّاة حديثاً «مبادرة الحزام والطريق».
في اعتقاد الأميركيين أنّ مغادرتهم أفغانستان ستخلق متاعب تعوق الصينيين أو تؤدي إلى إِشغالِهم في بؤر التوتر العرقي والديني، وتحدّ من تفرغهم لتوسيع نفوذهم إلى مناطق أخرى، سواء غرباً أو في جنوب شرق آسيا.
تحت هذا العنوان، سارع بايدن قبل أيام إلى إعلان تحالف «أوكوس» الثلاثي مع أوستراليا، وبمشاركة بريطانيا الخارجة للتو من أوروبا إلى رحاب الفضاء الأنكلوساكسوني. ويُنتظر أن يتسع هذا التحالف قريباً ليضمّ كل الدول «القلقة» من التمدّد الصيني في جنوب شرق آسيا، وفي مقدّمها تايوان الخائفة من ابتلاع العملاق لها في لحظة دولية سانحة. وستشارك اليابان أيضاً في هذا التحالف، وهي كانت أساساً من أبرز مشجعيه.
كان الأوستراليون توافقوا مع فرنسا على صفقة غواصات تعمل على الديزل، بقيمة تقارب الـ38.6 مليار دولار. ولكن، في ضوء تنامي حاجاتهم الدفاعية، وفي ضوء توافقهم مع واشنطن، قرّروا التخلّي عنها واعتماد غواصات أميركية تعمل على الطاقة النووية ويمكن أن تحمل سلاحاً نووياً.
بهذه الصفقة ترتكب الولايات المتحدة مخالفة صريحة لمعاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية. ولكن، في نظرها، مواجهة الصين تستحق هذه المغامرة. وفي تقدير التحالف الناشئ، أنّ إخافة الصين النووية وردعها عن محاولة ابتلاع جيرانها لا يمكن أن يتحققا إلّا نووياً.
لكن هذه المواجهة مع الصين جاءت مكلفةً بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي. فالأوروبيون يعتبرون أنّ الولايات المتحدة خانتهم وباعتهم من أجل مواجهة الصين، فيما الأميركيون يقولون إنّ أوروبا تريد منهم الحماية والشراكة في المكاسب، لكنها تلعب دائماً في شكل منفرد، وبما يناسب مصالحها فقط.
ففي المواجهة الاقتصادية العنيفة التي جرت بين الأميركيين والصين خلال ولاية ترامب، وقف الأوروبيون في منتصف الطريق بين الطرفين. وكذلك في الملف الإيراني كان الموقف الأوروبي متأرجحاً. بل إنّ هناك دولاً أوروبية عدة وفّرت لإيران هوامش التفلّت من العقوبات الأميركية، فأتاحت لها أن تصرِّف نفطها من طريق المقايضة، تجنباً لاستعمال الدولار الأميركي.
ولا تُنسى المواجهة التي جرت قبل سنوات بين ترامب وماكرون، ميدانياً وعلى أرض فرنسا، خلال إحياء ذكرى انطلاق الحرب العالمية الأولى، عندما سخر الأميركي من مُضيفه الفرنسي ومن أفكاره الرامية إلى تأسيس جيش أوروبي.
ولاحقاً قال ترامب: «فليدفع لنا الشركاء الأوروبيون ما دفعناه من مال، طوال عقود، في سبيل الدفاع عنهم في وجه الاتحاد السوفياتي». وبعد فترة قصيرة، غرق ماكرون في انتفاضة «السترات الصفر» التي أصابته بالإنهاك.
بعد «ضربة الغواصات»، عاد الأوروبيون، وبقوة، إلى التداول بفكرة المشروع الدفاعي الموحّد وبناء الجيش الأوروبي. لكن دون ولادة هذا الحلم عثرات كثيرة. فالأوروبيون أنفسهم ليسوا منسجمين في اتجاه واحد، لا في التكتيك ولا في الاستراتيجيا. كما أنّ الغضبة الفرنسية ربما تَخْفُت قليلاً بعد أن يتصل بايدن بماكرون ويبرّر له ويطيِّب خاطره، وربما يطلق وعداً له بتعويض الخسارة في مكان آخر.
ولكن، في أي حال، الخلاف الأميركي- الفرنسي في المحيطين الهادئ والهندي ستكون له انعكاساته على العلاقات بين الطرفين في مناطق أخرى، ومنها الشرق الأوسط. فهل يفكّر الأوروبيون، والفرنسيون خصوصاً، بالردّ على بايدن في الشرق الأوسط مثلاً؟
الخبراء يقولون: أساساً، تلتزم فرنسا سياسة متمايزة في ملفات الشرق الأوسط كلها: إيران، الخليج العربي، العراق، سوريا، لبنان والقضية الفلسطينية وسواها. وعندما دخل بايدن إلى البيت الأبيض، اعتقد كثيرون أنّ الهوامش مع الأوروبيين ستضيق. وهذا ما ظهر مثلاً في التنسيق الذي جرى بين واشنطن وباريس في الملف اللبناني، ونجح أخيراً في إنتاج تسوية ظرفية وحكومة «أمر واقع».
ويعتقد البعض، أنّ ماكرون سيحاول أن «ينتقم» من الحليف الأميركي بالذهاب إلى المزيد من التفاهمات مع الإيرانيين أو بإقامة روابط أقوى مع الصينيين، ما ينعكس تغييراً في خريطة التحالفات الإقليمية. فهل هذا التوقُّع في محله؟
ممكن، يقول الخبراء. لكن هناك فارقاً شاسعاً في القدرات بين الطرفين. فالولايات المتحدة تمتلك أوراقاً قوية وتقيم تحالفات مع القوى الأوسع نفوذاً في الشرق الأوسط، وقد لا يكون واقعياً لماكرون أن يخوض غمار التحدّي المفتوح في وجهها.
ولكن، يمكن لفرنسا أن تبادر في ملفات معينة أو «تزعج» الأميركيين في ملفات أخرى. فهل يكون لبنان واحداً منها؟ وهل ستكون لذلك انعكاسات على التسوية؟