محمد وهبة
في 21 أيار 2008، استفاقت بورصة بيروت على «طلب لافت». أتى ذلك تزامناً مع إعلان اتفاق الدوحة. يومها ارتفع سعر سهم «سوليدير» الذي كان مُدرجاً في بورصة لندن إلى 40 دولاراً للسهم. وفي بورصة بيروت بلغ سعر السهم 31 دولاراً بفئتيه (أ) و(ب). في تلك الفترة لم تقم الشركة، التي استولت على أملاك اللبنانيين بأوسع غطاء سياسي بعد الطائف، بأيّ عمل يرفع سعر سهمها، بل كانت شبه متوقّفة عن العمل وآيلة إلى الإفلاس، وهو أمر بدأت ملامحه تظهر بوضوح بعد عام 2015. أسهم الشركة كانت عبارة عن فخّ يُستدرج إليه كلُّ المغفّلين الباحثين عن ربح ريعي سريع. اقتصاد الكازينو كان يغلي في عروقهم. كانوا يصدّقون بأن اتفاق الدوحة، أو حتى تأليف حكومة، أو أي خبر سياسي يُصنّف بطريقة ما «إيجابياً»، سيعود عليهم بأرباح سريعة في أسهم سوليدير، بينما الواقع هو أن هناك وحوشاً ينتظرون هؤلاء المغفّلين ليكسبوا على حسابهم ريوعاً إضافية بالجملة. ففي نهاية الأمر، يوم الاتفاق هو يوم قطاف الريوع للكبار على حساب الصغار.
هو الكازينو نفسه الآن مع فوارق لا تغيّر في جوهر اللعبة شيئاً. الكازينو أفلس، لكنّ الناس لا يزالون يقعون في أفخاخه. فمع كل خبر سياسي يتم تصنيفه «عشوائياً» أو بشكل «ممنهج» ومقصود، تتكرّر المأساة نفسها، تأليف الحكومة. حتى زيارات الرؤساء المكلّفين إلى بعبدا كانت خبراً «مفرحاً». كلّها كانت عبارة عن أفخاخ ينصبها الوحوش. هذه المرّة الوحوش من نوع مختلف: مضاربون على العملة بالجملة والمفرّق، صرافون، مصرفيون خلف وتحت ووراء الطاولة، تجّار بكل أشكالهم الاحتكارية وأزلامهم على المفارق... عند كل حدث سياسي تبدأ الشائعات عن انخفاض سعر الصرف، وينتهي الأمر بارتفاعه مجدداً بعد عملية «القطاف».
سيُرفع الدعم نهائياً، وليست هناك أي خطّة لوقف تداعيات الانهيار وتسارع الانحدار نجو جهنّم التحتا
ما يحصل هو أن تحقّق المتنبَّأ به، يجعل الشائعة حقيقية مع أن الأمرين منفصلان نسبياً أحدهما عن الآخر. تشكيل الحكومة لا علاقة له فعلياً بسعر الصرف، بل مرتبط بما ستقوم به الحكومة. إذاً، هل تغيّر أمر ما لينخفض سعر الصرف؟ لا. هل كشفت الحكومة عن مشروع ثوري يجعل سعر الصرف ينحدر بعيداً عن مستواه؟ لا. هل لوّح أحد ما بأيّ معجزة في الأفق، بينما المقيمون في لبنان مشغولون بالبحث عن تغطية حاجاتهم اليومية الضرورية؟ لا. الحقيقة أن الوحوش يشترون على وقع الشائعات، ويبيعون في اليوم التالي أو بعد أيام لا فرق. ألم يسأل الناس الذين يتهافتون على بيع دولاراتهم المخزّنة: من يشتريها ولماذا يشتريها؟ ألا يعتقدون أنه لو كانت هناك خسائر في هذه الدولارات لما اشتراها أحد. هؤلاء المغفلون الذين يصدّقون الشائعات هم أنفسهم الذين صدّقوا أن مصرف لبنان والمصارف ستدفع فوائد تصل إلى 25% على ودائع الدولار فقط لأنها «كريمة». اعتقدوا أنها فرصة. هم أنفسهم لم يلاحظوا أن الفوائد الباهظة تعني أن المشكلة كبيرة وأن الآتي أعظم.
اللاءات التي يمكن استخراجها من الأسئلة المتصلة بتشكيل الحكومة كثيرة. رغم ذلك ينجرّ الكثير من الناس نحو الفخّ مباشرة. رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نفسه قالها على الهواء مباشرة مع «دمعة حزينة»: سأطرق كل باب متاح... لم يقل بأنه يسعى لإعادة هيكلة الديون. لم يقل بأنه سيسعى لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. لم يقل بأنه سيوقف مسار إطفاء الخسائر القائم على تضخيم الأسعار. لم يقل بأنه سيوحّد سعر صرف الليرة مقابل الدولار. لم يقل بأنه سيحاسب. لم يقل بأنه سيطوي الصفحة ويبدأ صفحة جديدة بعد نسيان الماضي. حتى هذه لم يقلها. لم يقل بأنه سيقوم بأيّ أمر استثنائي. كل ما قاله هو أنه سيقوم بجولة تسوّل دولية - عربية. خطابه الدامع كان يهدف إلى إخفاء حقيقة أن الوصاية الدولية ارتأت لأسباب وأسباب، وأن الأموال المتاح استخدامها للبنان لاستيراد الغذاء والمشتقات النفطية الضرورية شحّت، وأن خطّة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإطفاء الخسائر متواصلة بتعدّدية أسعار الصرف وبتضخيم كل أسعار السلع الأساسية والضرورية وآخرها السلع المدعومة التي تضاعفت أسعارها مرات ومرات وهي مقنّنة وتباع في السوق الحرّة (السوداء) حيث سعر الدولار الحقيقي... كل ذلك يعني أن تقلبات سعر الصرف عند الصرّافين ليست تقلبات حقيقية، بل أفخاخ.
يقول أحد المضاربين الصغار: «سينخفض سعر الصرف ثم يرتفع تدريجياً. أنا سأشتري عند هذا السعر (...) لكن في النهاية أعلم أنه بعد فترة سيُرفع الدعم نهائياً، وليست هناك أي خطّة لوقف تداعيات الانهيار وتسارع الانحدار نجو جهنّم التحتا... شراء الدولار هو وسيلة النجاة بالنسبة إليّ». لو كنتم «مضاربجية» لاحتفظتم بدولاراتكم. أقولها لهؤلاء الذين لا يملكون سوى قوت يومهم ويأتيهم بعض من الدولارات من مغتربين، أو حتى كانت لديهم مخزّنة. باقي أفراد «اقتصاد الكازينو» فليلعبوا مع الوحوش.