جورج شاهين
في انتظار ما يحمله آخر الصيغ المتداولة لتشكيلة الحكومة العتيدة، يترقب اللبنانيون ما سيكون عليه مسلسل الأعذار الذي يوحي باستمرار المماحكات السياسية وما تخفيه من أهداف يخجل البعض من الاعتراف بها. فعلى رغم التكليف الثالث الذي أوحى بتدوير الزوايا، بقيت التبريرات دون مستوى ما تستحقه عدة المواجهة لمظاهر الانهيار الكبيرة الى درجة اعتبر معظمها في شكله ومضمونه انه أكثر من «عذر أقبح من ذنب»، فكيف ولماذا؟
حتى أمس لم يكن مسلسل التشكيلات الحكومية قد بلغ النتائج المرجوة بعدما جالت العقد على معظم الحقائب بطريقة لا يمكن تفسيرها بسهولة. فمعظم التبريرات التي اعطيت لهذه الحقيبة او تلك كانت مثار قلق سياسي وديبلوماسي، عَدا عن الرفض الشعبي لمعظمها قياساً على حجم المعاناة التي يعيشها اللبنانيون والمقيمون. وقد وصل الامر ببعض الديبلوماسيين حَد اعتبار انّ ما يجري تبريره غير مقبول تحت اي ذريعة أو سبب مهما كان وجيهاً.
وعند هذه الاعتبارات يتوقف المراقبون والديبلوماسيون ويرون ان التكليف الثالث ربما كان الخطوة الاخيرة في مسيرة الشغور الحكومي، وقد تنامت الازمات وتناسلت من قطاع الى آخر الى ان شملت مختلف وجوه حياة اللبنانيين، في وقتٍ لم يقنع اي تبرير لما يجري من مماحكات تارة كانت شخصية استمرت طوال فترة تكليف الرئيس سعد الحريري بعد جولة قصيرة خاضها السفير مصطفى أديب قبل أن تستنسخ هي نفسها في التعاطي مع الرئيس نجيب ميقاتي.
وان تدرّج مسلسل الاعذار يمكن الإشارة الى تاريخ انطلاقته بدءاً من النقاش بين «بيت الوسط» وقصر بعبدا الذي دار إبّان تكليف الحريري حول صلاحيات الرئيس المكلف في تشكيل الحكومة والدور المنوط برئيس الجمهورية. وتدرج على وقع المواجهة الدستورية التي بقيت في الظل لفترة بعد رفض رئيس الجمهورية قراءة الحريري لدوره. ومن بعدها، طاولت ما سمّي الحفاظ على «حقوق المسيحيين» ورفض المس بصلاحيات رئيس الجمهورية. وتفاعلت بقية الأسباب، وتحدثت أوساط رئيس الجمهورية عن عدم قدرة الحريري على التشكيل، تارة بسبب الموقف السعودي الرافض مهمته وطوراً جرّاء الخوف من تداعيات انفجار الوضع النقدي والمالي والاقتصادي على حكومته ربطاً بالخلاف القائم حول رفع الدعم وترشيده قبل استكمال عملية التاليف، باعتبار انّ اي اتفاق يجنّب التشكيل بعض المعوقات في ظل رفض رئيس حكومة تصريف الاعمال اتخاذ اي قرار برفع الدعم ودعوة مجلس الوزراء الى البَت بما هو عالق من قضايا كانت تنتظر الحكومة الجديدة.
وإحياءً للذاكرة، لم يتوقف مسلسل التبريرات «الهمايونية» على لسان المصادر، لا بل فقد استمر بنحو غريب وعجيب يعجز الانسان العادي عن فهمه، خصوصا انه طاوَل النيات لا الأفعال والمواقف، الى ان بلغ الجدل البيزنطي المُمِل مجال التوازنات الحكومية ومصير الحقائب السيادية والخدماتية والعادية بعدما خضعت لتعديلات غير مألوفة، فقفزت من خلالها بعض الحقائب العادية الى مرتبة الأساسية والخدماتية المرغوبة بعد ان كانت مهملة يرتاب من ينالها من حجم قيمته التمثيلية وقدره.
لم تقف الامور عند هذه الحدود، فقد بلغ النقاش في الفترة الاخيرة حقائب الشؤون الاجتماعية والاقتصاد بعد الداخلية والعدل كما الطاقة ،وتحدثت اوساط الطرفين عن معادلات جديدة مستغربة تفصل بين ادوار وهموم رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بنحوٍ مريب. فعلى سبيل المثال، نسبت المصادر عينها الى كل من عون وميقاتي سعيهما الى نيل حقيبة الاقتصاد، على خلفية حضور من يمثلها في اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وفي المفاوضات مع دائني سندات اليوروبوندز من خلال اللجنة الوزارية التي ستتولى هذه المهمة. وهو ما دفعَ المراقبين، ومن بينهم ديبلوماسيون وخبراء، الى السخرية من هذه النظرية المستهجنة والخطيرة التي تنبىء بأن أيّاً من هؤلاء الوزراء يمكنه البت بما يريد في مفاوضاته مع الجهات الدولية بالعودة الى «مرجعيته» السياسية او الطائفية من دون حاجة للعودة الى مجلس الوزراء. والأخطر انها فسّرت على ان هناك وزيراً ما سيخفي نتائج مثل هذه المفاوضات ان كان من حصة عون أو ميقاتي عن اي منهما او عن زملائه الآخرين، وقد نسوا انّ حصيلة مثل هذه الاجتماعات ستصب في النتيجة في مجلس الوزراء مجتمعاً، حيث تتخذ القرارات النهائية في شأنها.
ولا يقف الجدل حول الأسباب التي اعاقت تشكيل الحكومة او التفاهم على هذه الحقيبة او تلك لتبقى الاشارة ضرورية الى انّ البحث عن الثلث المعطل من جانب رئيس الجمهورية لا يمكن إخفاؤه، فما حملته اقتراحات بعض الاسماء يوحي صراحة بالسعي إليه، ولو مغلّفاً، من دون ان يدري من يختارها ان لبنان بلد صغير ولا يمكن اخفاء المستشارين والأصدقاء بسهولة فهم معروفون، وإن عَجز البعض عنهم فلكّل منهم «فيشته» لدى فروع المعلومات في الاجهزة الأمنية ويمكن الوصول اليها بسهولة.
وكان بعض المراقبين يتوقع ان يخجل بعض المنظّرين في بلاط اي سلطان من الاستمرار في تفسير المواقف وتبرير الحجج الواهية التي نسفت محاولات تشكيل الحكومة حتى اليوم. ولكن طالما ان الامر لم يحصل فقد بات واجبا تذكير المعنيين بمضمون بعض التقارير الدولية والاممية التي تتناول ما آل اليه الوضع في لبنان ليُضيف الى ثقافة تجاهلهم حجم المآسي ما يفيض من مؤشرات خطيرة.
وفي هذه المضمار لفتت مراجع ديبلوماسية وسياسية الى مضمون تقرير البنك الدولي، الذي وضع في سلة المهملات على ما يبدو، فهو قدّم وصفاً دقيقاً عن حالة لبنان الاقتصادية، بعبارة مقتضبة قال فيها «انّ أزمة لبنان الاقتصادية هي من أشد ثلاث أزمات عالمية منذ القرن الماضي»، مذكّراً مَن هم في موقع المسؤولية منذ تلك المرحلة وحتى اليوم انه قد حذّرهم منها «في بدايات العام 2019 مع فشل لبنان في احتضان مؤتمر سيدر»، وهي التي أدت بتفاعلاتها ومؤشراتها الخطيرة «الى أزمات متلاحقة، وصولاً الى ثورة 17 تشرين، التي كشفت الأخطاء والفساد في النظام اللبناني».
وبناء على ما تقدّم، لا يمكن تَجاهل ما بات ثابتاً في أذهان أوسع شريحة من اللبنانيين ان الاستمرار في المناكفات الصغيرة والمطالب التعجيزية هو إشارة الى انّ هناك إصراراً غير مسبوق على تقديم الأعذار التي تفيض في شكلها ومضمونها على الذنوب في ظل فقدان من يُحاسب ويحسم، والى تلك المرحلة البعيدة المدى سيبقى اللبنانيون أسرى أزماتهم الى ان يقضي الله أمراً كان مفعولا.