رمال جوني
بعيداً من ضجيج الأزمات، كانت تطهو المجدّرة، أحضرت حلة نحاسية صغيرة، جهّزت الموقد الصغير ووضعت قربه بضع أعواد من الحطب.
إعتادت منذ صغرها على تناول هذا الطبق الشعبي الذي كان عصب العائلة وابو الفقراء، غير ان الازمة سرقته من شعبيته وبات صعباً تحضيره في زمن ما قبل الدعم.
فماذا بعد رفعه؟ أي حال سيكون عليه المواطن؟ ماذا عن مستقبله الصحي والغذائي، وعن لقمة عيشه هذه الايام؟ قبل رفع الدعم الاسعار نار، فكيف بعده؟
يعجز ربّ الأسرة اليوم عن شراء كيلو عدس أحمر لاعداد المجدرة، فكيف الحال مع البطاطا المسلوقة أو الكوسا محشي؟ للاسف، يخضع 80 بالمئة من أبناء النبطية وقراها لنظام تقنين قاس في الاكل، فالكوسا محشي من المستحيلات مع إرتفاع أسعار الخضار والرز واللحم والغاز، ويُعدّ مع ورق العنب اليوم من دون لحم، والاخير لمن إستطاع اليه سبيلا. فـ80 بالمئة من السكان ما دون خط الفقر، بالكاد يستطيعون دفع فاتورة الاشتراك التي تخطت الحد الأدنى للاجور، فكيف يعيش الناس؟ سؤال يدور في فلكه ألف سؤال وسؤال؟ غير ان اليوم بدأ التسويق للإنتخابات، بونات بنزين مدعوم ومازوت للسائقين العموميين واصحاب الصهاريج، كرتونة إعاشة، 400 ألف ليرة، هي العدّة القائمة اليوم للتسويق الانتخابي، فالازمة الحالية اطاحت بـ100 دولار ثمن الصوت الانتخابي، وحلت مكانها بونات مازوت غب الطلب، يجري توزيعها على بعض اصحاب صهاريج المياه وشوفرية التاكسي التابعين لجهة سياسية من دون غيرهم، أما الآخرون فلا حول ولا قوة لهم.
يبدو ان المعركة الانتخابية بدأت، وأدارت معها محركاتها، والكل يضع اصبعه على جرح المواطن الاقتصادي، يشترونه بلقمة عيشه، تارة بكرتونة اعاشة وطورا بـ400 ألف عدّة الشغل هذه الإيام، وإن كانت تصب في خانة خدمة الناس لمواجهة الازمة، لكن لماذا غاب الانماء الريعي وحضرت المساعدات الطارئة؟ ولماذا لم يخضع الجنوب طيلة السنوات الماضية لعملية تأهيل صناعية وزارعية تقوده الى تشييد المعامل والمصانع، وتوفير فرص العمل، بدل الحج اليوم الى المطار للهجرة؟ اسئلة لا تحمل أجوبة شافية، فقط صراع الناس على تأمين لقمة عيشهم غير المتوفرة، وبات صعباً عليهم اعداد صحن مجدرة تجاوزت كلفته الـ30 ألف ليرة، بعدما كان لا يتعدّى الـ1000 ليرة كحدٍ أقصى، فكيف الحال مع رفع الدعم؟
يرفض معظم الاهالي نظام "الإعاشات الانتخابية"، يعتبرونه "شراء لهم وهو ما لا يرتضيه كثر، ويرضى به البعض على مضض، فالكل يلعب على وتر حاجة الناس، يعلمون جيداً أن العوز ضعف، وكرتونة الاعاشة تسدّ حاجة، غير ان ما يحتاجونه اليوم ليس فقط كيس عدس وحمّص وبعض اصناف المعكرونة، ما يحتاجه دواء وعلاج، وامان واستقرار وفرص عمل وتحسين اوضاعهم المالية.
يخشون المدارس حيث بدأت مخاوف الكتب والقرطاسية وزي المدرسة تؤرق حياتهم، تسأل الأمهات "كيف سنتدبّر حاجيات المدارس، ومعها النقليات؟ حتى أن الموظفين الاكثر تأثراً بالازمة، هؤلاء ماضون في اضرابهم.
ترفض فاطمة، الموظفة الحكوميــة والام لثلاثة اولاد العودة للعمــل، فهي جرّبت العوز في الازمة، باتت تغرق بالدين بعدما كان معاشها يفيض عنها، بالكاد تتمكن من دفع الرسوم والفواتير، وماذا عن الاكل والشـرب والتنقّل إضافة لهمّ المدارس؟
معظم المدارس الخاصة لم تضع خريطة طريق واضحة لاقساطها ولأسعار الزي المدرسي والنقليات، والكل ينتظر سلة رفع الدعم ليحدد المصير؟ تجزم رانيا بأنها لن تقوى على تسجيل اولادها الثلاثة في المدرسة الخاصة، فالأقساط والنقليات اكبر من امكانياتها، ولم نصل بعد الى الكتب والقرطاسية ومتطلبات المدرسة اليومية، كل ذلك يجعل مصير اولاد رانيا كما اولاد كثر على المحك، ما لم يتم النظر في تصحيح الاجور والرواتب وتثبيت سعر صرف الدولار، وإلا لا عام دراسياً لا حضورياً ولا online.
على كف عفريت يقف الطالب والعامل والموظف والجميع، مصيرهم معلّق برفع الدعم وبكرتونة اعاشة، فسعر المواطن هذه الايام 400 ألف ليرة، تكفي لسد وكم الافواه المعترضة على انهيار البلد، فالعين اليوم على تشكيل حكومة تشكل رافعة الخلاص، غير ان الاخيرة عالقة وقذفت المواطن في نار جهنم، فمن ينقذه؟