مايز عبيد
كم هي كثيرة اليوم الحالات الإنسانية الصعبة في مدينة مثل طرابلس، استطاع الفقر والإهمال أن ينخر شوارعها وأزقّتها، ويقضي على حلم شبابها وشاباتها وحتى أطفالها بالعيش بأمان واطمئنان، ولا نبالغ إن قلنا أن عاصمة الشمال هي بحد ذاتها حالة إنسانية صعبة. كيف لا، وطرابلس التي تمتلك كل مقومات التطور والنهوض والمشاريع المغيّبة والمقتولة، أكثرية عائلاتها تعيش دون خط الفقر، في وقت يفترض أن تكون هذه المدينة لؤلؤة على ساحل المتوسط ورافداً أساسياً للإقتصاد الوطني والقومي؟
وأنت تسير في شوارع تلك المدينة وأزقّتها، وفي أحيائها الشعبية، تقع عيناك على حالات إنسانية كثيرة تشدّك إليها بعطف ومن دون سابق إنذار. من بين هذه الحالات ذاك الطفل الذي يسحب كرتونة على ظهره بحبل صغير ويجرّها في حي ساحة النجمة يجمع فيها ما يجد من حديد أو بلاستيك أو أي أشياء قد تصلح للبيع لدى تجار الخردة.
أيمن القبوط، طفل من منطقة باب التبانة يبلغ من العمر 13 سنة، يعمل بجمع الحديد والتنك من الحاويات أو الطرقات والشوارع ومن أزقّة المدينة، ويضعها في كيس داخل كرتونة ويجرّها على ظهره بحبل صغير ربطه بها لهذه الغاية. ومع أن طفلاً مثله في هذا العمر مكانه الطبيعي اليوم في مقاعد الدراسة، إلا أنك في لبنان تستطيع أن تتوقّع كل شيء خرج عن المألوف، أو جافى المنطق. يبحث الطفل أيمن كل صباح عما يستطيع من الخردة ويضعها في كرتونة. لماذا كرتونة؟ لأنه بكل بساطة يؤمّنها بالمجان إذ لا قدرة لديه على اقتناء عربة حديدية أو ما شابه. يقول: "أنا ولد لعائلة من ام واب و6 أولاد وأبي يعمل مثلي أيضاً، وكل ما يمكن أن أجمعه بنفسي قد لا يباع في اليوم بأكثر من 20 ألف ليرة لبنانية، بينما ما أجمعه أنا وأبي قد لا يتعدّى الـ 50 ألف ليرة لبنانية". والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان مباشرة هو: ماذا تكفي 50 ألف ليرة لعائلة من 8 أشخاص في هذه الظروف الصعبة وفي ظل الغلاء المستشري؟ كل ما يدركه هذا الطفل أن عليه مساعدة عائلته بتأمين مصروفها لأن لا جهات رسمية ولا غيرها تهتم بشؤون الناس وشؤون العائلات والأطفال.
تحدّث أيمن القبوط بجُمل قليلة ثم غادر ساحباً عربته الكرتونية إلى جهة أخرى قد يجد فيها ضالته من الخردة. هو يعمل من الفجر وحتى الساعة السادسة مساءً كل يوم لكي يؤمّن شيئاً بسيطاً من المال له ولعائلته، ولكي يساعد والده على اجتياز مصاعب الحياة وتكاليف العيش، وما أكثرها. المؤسف أن أيمن القبوط وأطفالاً كثيرين يشبهون حالته في طرابلس وغيرها، ذنبهم الوحيد أنهم وجدوا في بلد لم يختاروه هم بإرادتهم، لكنّ سلطته اختارت هي وبإرادتها، بأن تجعل من أطفالها مشرّدين، ومن عائلاتها تائهين، ومن شبابها وشاباتها عن الهجرة باحثين. وأي كلام يقال في حضرة المأساة وفي زمن التخلّي وتقاعس المسؤول عن مسؤوليته؟ ليس أبلغ كلام في هذا المقام من جملة نطق بها الطفل أيمن عن معاناة وحرقة نفس، لكنّها جملة تختصر كل المشهد اللبناني برمّته، إذ لدى سؤاله: لماذا أنت هنا ولست في المدرسة، وماذا تطلب من وزارة الشؤون الاجتماعية ومن الدولة؟ كان جوابه البسيط المختصر والجامع: "ليش في دولة"؟