أكرم حمدان
لم يكن يخطر في بالي يوماً عندما دخلت كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية في تسعينات القرن الماضي، لدراسة الصحافة وإمتهان مهنة المتاعب، أنني سأكتب عن طوابير الذل والإهانة للمواطنين في مختلف قطاعات الحياة الأساسية من خبز وأدوية ومحروقات التي لم نشهدها حتى أيام الحرب المقيتة إلا في نهاية الثمانينات عندما كانت البلاد منقسمة ومنشطرة وكذلك الناس بين معسكرات ومحاور.
مناسبة هذا الكلام هو تجربتي ككل الناس منذ أيام في طابور الذل على إحدى محطات البنزين التي يديرها المدعو "أبو عسكر" كما ينادونه، بعد وقفة دامت منذ التاسعة صباحاً وحتى قرابة الثالثة بعد الظهر، تخللها أكثر من مرة توقف التعبئة على المحطة، إما بسبب الخلافات التي كانت تحصل بين المنتظرين ومسؤول المحطة، وإما بين أصحاب السيارات وحاملي غالونات البلاستيك التي تباع في السوق السوداء وسائقي الدراجات النارية، وإما لإراحة المولد من قبل مسؤولي المحطة كما كانوا يزعمون. وعلى الرغم من تدخل دورية للجيش لتنظيم الوضع، إلا انه سرعان ما تعود الأمور إلى الفوضى والخلافات ما ان تغادر دورية الجيش.
لكن ما تمكنت من تسجيله في هذا اليوم فيه أكثر من مذلة للناس الطيبين العاديين وفيه المزيد من العهر للمافيات والفساد والمفسدين وفيه أيضاً إفتراء على الجيش والمؤسسة العسكرية وتوريطها في عمل ليس من مهامها في الأصل.
فقد تبين لي أن سرية واحدة من الجيش فقط تتولى في هذا اليوم مهمة متابعة محطات الوقود من مداخل مدينة صيدا حتى منطقة خلدة نظراً لعدم وجود القدرة والإمكانيات اللوجستية لدى المؤسسة العسكرية لفرز أكثر من ذلك.
ومن مشاهدات هذا اليوم أيضاً أن الوقوف في الصف بشكل منتظم يبدأ من مكان بعيد حيث كنت على خط واحد، ليتحول كلما إقتربت من المحطة إلى أربعة خطوط غير الخط المعاكس لأصحاب "الحظوة".
ولأنني قررت الكتابة بعد أيام لكي لا تكون ردة فعل إنفعالية، فإن المؤلم في هذا اليوم المذل هو الكلام الذي سمعته بحق الجيش وقائده، فعندما وصل دوري كان أمامي سائق فان ومجموعة من حاملي الغالونات، تمت تعبئة الغالونات ثم حضر شخص يرتدي قبعة وصرخ بصوت مبحوح "سكّرنا" وقفوا ما بقى بدنا نعبي...
تحرك الفان من أمامي خطوات بسيطة ووصل صاحب القبعة وخبط بيديه على سيارتي وهو يقول بصوته المبحوح "شيل السيارة ما بقى بدنا نعبي... شيل السيارة قبل ما تتكسر"... فسألته ببساطة: لماذا ستتكسر السيارة... فقال سيبدأ المشكل وتتكسر السيارة... عاجلته بالقول: سأتصل بالجيش... فإقترب مني صارخاً بصوته المبحوح ...انت وقائد الجيش وهونيك محل .... طبعاً عبارة قبيحة كوجهه لا يمكن أن أستخدمها...
فعاجلته بالقول... أنا صحافي ولنا كلام آخر وأبرزت للأسف بطاقتي الصحافية لهكذا شخص... فعاد أدراجه وإقترب مني قائلاً... إذهب وإرجع بعد ساعتين.. لماذا لم تأت من مكان آخر (المقصود الخط المعاكس).. فقلت لن أغادر وأتيت كغيري من خلال دوري وبشكل منتظم...
وبعد دقائق بدأ بالتصفير للعاملين لديه الذين تجمعوا حوله وطلب من كل الناس مغادرة المحطة... تحركت ببطء وركنت سيارتي في جانب من المحطة وإنتظرت قرابة نصف ساعة أو أكثر ثم قلت للمدعو أبو عسكر بعدما سمعت موظفيه ينادونه بهذا الإسم... أنا لا أستطيع المغادرة لأن سيارتي فارغة من البنزين... فرد بنبرة الواثق... هذه مشكلتك نحن سكرنا وما فيني إخدمك... فإنتظرت حتى وصل أحد المعارف وهو بالصدفة كان في الصفوف الخلفية للطابور وطلبت منه أن يذهب إلى محطة قريبة ليكتشف إذا كانت تعمل ويمكن أن نذهب إليها لأن مخزون سيارتي لا يكفيني لمسافة بعيدة وبالفعل حصل الأمر وغادرت هذه المحطة إلى صف جديد ورحلة إنتظار دامت نحو ساعة لكي أحصل على كمية محددة كانت تعتمدها تلك المحطة...
خلاصة هذا اليوم أني لم أستطع القيام بأي شيء سوى الإنتظار في طابور الذل حيث كانت الساعة قاربت السادسة مساء... أيضاً لم أكن أتوقع أن تكون مافيات المحطات وخصوصاً غالونات السوق السوداء بهذه القوة والعزيمة، إذ وصل أحد العاملين لدى أبو عسكر خلال فترة الإنتظار ما بعد التوقف على دراجة نارية وأعطى أحد السائقين الذي كان ينتظر بالقرب من المحطة، هذا الغالون وأخذ ثمنه طبعاً وقد اتى من خلف المحطة...
من المؤسف زج الجيش والمؤسسة العسكرية في هذه المذلة حيث إشتكى البعض في أماكن أخرى من تصرفات غير مسؤولة لبعض العناصر والضباط ومن ثم تعرضها للإهانة من أمثال "أبو عسكر"...
بينت هذه التجربة أن الفساد ليس حكراً على فئة محددة من الناس وإنما يعيث بطول البلاد وعرضها وعلى مختلف المستويات...
بينما الناس تقف في طوابير الذل فإن مافيات المحطات يقررون متى شاؤوا الفتح والإقفال بمعزل عما لديهم من مخزون في المحطات... وما ذكرته ربما يبقى قليلاً أمام ما قد يكون حصل ويحصل لدى محطات ومافيات أخرى...
منذ أيام كتبت كريمة الرئيس سليم الحص وداد مذكِّرة بقول لوالدها في الثمانينات وفيه: "إنّ في لبنان وحوشاً تخطر بين الناس كالبشر" .
وأردفت متابعة: "لم يتغيّر شيء حتّى الآن، زعماء سوق النخاسة السياسيّة ما زالوا يتربعون على عروشهم والشعب يصفّق، أرباب الفساد والإجرام والمحاصصة والمذهبيّة ما زالوا يتحكّمون بمصير العباد والشعب يصفّق".
فإلى متى سيبقى الشعب خاضعاً للمحتكرين وسائراً في ركب الأحزاب والتيارات والزعيم؟؟