الدكتور فارس الجميّل
أحارُ من أين أبدأُ ولستُ مِنَ المُداومينَ على فنّ الكتابةِ ولكنَّ رغبةً شديدة إعترتني بأن أسكُبَ حِبراً على ورقٍ جُزءاً من مُعايشتي لِتَجرِبةِ عمي المطران بطرس الجميّل الصحيةِ والإنسانيّةِ.
كنتُ صغيراً عندما وصل إلى مستشفى الروم في العام 1988 في وضعٍ صحيٍّ حَرِجٍ حيث خضع لعمليّةِ قلبٍ مفتوحٍ عاجلةٍ أنقذَت حَياتهُ.
وَرُقِّيَ من بعدِها إلى درَجَةِ الأُسقفيَّةِ وَسيمَ مطراناً على أبرشيَّةِ قُبرُص.
ولا أنسى يومَ لَجأَ بنا أهلي إلى هُنالِكَ هَرباً من جَحيمِ المعارِكِ بين الأُخوة في لبنان حيثُ شاهدتُ بأمِّ العينِ حَجمَ المأساةِ التي ضربَتِ العائلاتِ اللُبنانيَّةِ المُشتَّتةِ ولمستُ جهودهُ الجبَّارةِ بمُساعدَةِ الراهباتِ الأنطونيّاتِ لِلملَمَةِ جراحَها ومُساعدتها في المأكَلِ والملبَسِ والمسكنِ بانتظارِ تأشيرةَ سفرٍ تَحمِلُها إلى بلادِ الله الواسعة.
ومن ثمّ مرّت الأيام، كان "عمو المطران" يَسكُنُ في قبرُصَ ويحمِلُ همَّ لبنان الذي كان يزورُهُ باستمرارٍ ليكون بين أهلهِ ولمُتابعةِ نشاطِهِ في رئاسةِ اللَّجنةِ الليتورجيَّةِ في الكنيسةِ المارونيَّةِ وصياغةِ القدّاس المارونيّ الجديد.
ولا أنسى يومَ كنتُ لا أزالُ في أوَّلِ سنةٍ من تخصُّصي في جراحة العظامِ والمفاصِلِ وسقَطَ في الحمَّامِ في "نيقوسيا" وكَسَرَ حوضَهُ. إتَّصل بي دونَ علمِ أحدٍ فسافرتُ إلى البلَدِ الذي يقيم فيه بِرُفقَةِ مارون إبنُ عمي وأتينا به إلى لبنان وخُصِّصَت لنا طائرةً خاصةً لهذه الغايةِ.
وقد كانت مفاجأةً للأهلِ عندما نَزِلَ على كُرسيٍّ مُتحرِّكٍ فتوجَّهنا به إلى المستشفى مُباشرةً بُغيَةَ العلاجِ.
ولستُ أنسى يومَ شَكَكنا بإصابتهِ بمرضِ الباركِنسون، فاتصلتُ بالدكتور بول بجّاني رَحِمهُ الله والتقينا في دير يسوع الملك بعيداً عن الأنظار حيثُ شخَّصَ حالتَهُ وبَدَأت رِحلةُ العلاجِ، ولا أنسى يوم خَضَعَ في مستشفى قلبِ يسوعَ لعمليّةِ تمييل وَقَسطرةٍ في القلب عاليةِ الخطورَةِ إثرَ ذَبحةٍ قلبيّةٍ وكنتُ إلى جانبِهِ، أمسكُ بيدِهِ ونُصلي معاً.
وكيف لي أن أنسى يومَ كسرَ كاحِلَهُ في السنةِ الأخيرةِ من حياتِهِ وعالجنا الأمر دون جراحةٍ وتخديرٍ فكان يتحمَّلُ كُل آلامهِ بِصمتٍ وصبرٍ غريبين.
وكيف لي أن أنسى عشراتِ المرّات التي نزلنا فيها إلى المستشفى بطريقةٍ طارئَةٍ لمعالجةِ إلتهاباتٍ استجدَّت وهدَّدَت حياتهُ.
أسرُدُ كلُّ هذه الأمور لأنني كنتُ أشعُرُ به يقولُ في كُلِّ مَرّةٍ مع بولس الرسول " أُكمِّل في جسدي ما نقُصَ من جِراحاتِ المسيح". وعندما كنتُ أفاجِئُه يقرأ في آخِرِ سنتين ِ من حياتهِ، كان يقولُ لي إنني أٌعيدُ اكتشافَ هذا القديسِ العظيم.
وإن نسيتُ، فلا أنسى ثِقتَهُ الكبيرةُ ومحبّتهُ اللتان تجلَّتا في أكثرِ من مناسبةٍ شخصيّةٍ وعائليّةٍ واجتماعيّة.
وكيف أنسى كرمَهُ وطيبتَهُ حين اتصلَ بي عندما كنتُ في "بروكسل" أتابعُ تَخصُّصي الجراحي ليقول لي تعال لزيارتِنا " اشتقنالك والسفرة عليِّ" ولم أكُن أملِكُ ثمن التذكرةِ أنذاك.
كنتُ أراقبُ نوباتَ الكآبةِ التي كانت تنتابُهُ أحياناً أواخِرَ أيامِ حياتِهِ وفي يقيني أنها الدليل الساطعُ بأنه أصبح بالقُربِ من صليبِ المسيح، وكأنّهُ يُردِّدُ مع بولس أيضاً " من يريحني مِن جسدِ العذابِ هذا" لينطلق إلى حيث النور الحقيقيَّ، حيثُ لا ألمَ ولا مَرَض.
فِعلاً، لقد أتممتَ سعيَكَ وحَفِظتَ إيمانكَ وكنت أميناً على القليلِ والكثيرِ واخترتَ النصيبَ الأفضل ولن يُنزعَ منكَ.
وأخيراً، وأمام المذبحِ الذي ارتسمتَ عليه وحيثُ كنا نَخدُمَكَ صغاراً وأحمِلُ لك المِبخَرَةِ ولأسمعُكَ تُنشِدُ في السكرستيا بعد كلّ قداس " قد أكلت جسدكَ المقدس لا تأكلني النار" ستستريحُ بعد مسيرةٍ خَصبةٍ حافِلَةٍ بعشرات المؤلفاتِ التي نَقلَت تُراثَ وليتورجيا الكنيسةِ الإنطاكيّةِ المارونيّةِ من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ في حِمى العذراءِ سيدةَ المعوناتِ شفيعتُكَ دائماً مردّداً " من كان للعذراءِ عبداً فلن يُدركهُ الهلاكُ أبداً".
" عمو المطران" لا أقول وداعاً بل أردِّدُ مع أوغسطينوسَ إلى الموعِدِ واللِّقاءِ " المسيح قام، حقاً قام".