النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
أحدّثكم من بين خطابين شاهقين فكأني في وادي قنوبين؛ قال السيد حسن كلاماً واضحاً وقاطعاً، وقال غبطة الراعي كلاماً مخالفاً وممانعاً، كل من قُبَّته أو سدته ينادي أهل الوادي، فتتداخل الأصداء وتتآكل الكلمات، وتختلط المعاني على أسماعهم والأفهام، وهم المحاصرون بين جبلين، تتداولهم المواسم، بين حمارة قيظ وصبارَّة قر، يغمرهم الضباب فتضيع الرؤية ويغم الأمل، يدثرِّهم الثلج حتى يتجمد الحسُّ، فلا يستعاد إلا على لفح الغابات المحترقة.
خطاب السيد حسن، لا يحتاج إلى تفسير إلا في دقيقته الأخيرة حيث وضع نفسه مع العوام في صالة انتظار تأليف الحكومة في حيادية غير مألوفة، مقلقة الدلالات؛ عدا ذلك فلا تأويل في معرض النص، فهو، وبملء الصراحة يعلن مثنى وثلاث عدم ثقته بالتحقيق القضائي الدائر في مسألة المرفأ رغم موقفه المعروف من التحقيق الدولي، وقد أوافقه على أنّ انطلاقة التحقيق قد وضعت العربة أمام الحصان عندما تسرع الحق العام بتخليق متهافت لعناصر القصد الاحتمالي، تبريراً للحكومة بإحالة القضية على المجلس العدلي فكان ذلك تعسفاً في استباق النتائج وتعثراً في اختيار الإسناد القانوني.
ما لم يقله السيد حسن أن انفجار المرفأ جريمة عمدية ارتكبها من خربوا آلة الحكم عن سابق تصميم وبدم بارد، وعطلوا الاستحقاقات وقذفوا بالدولة من فراغ إلى فراغ، فتسيبت المؤسسات وعمت الفوضى، وباتت النتائج الجرمية تحصيل حاصل بفعل آلية التعطيل التي يحركها فاعل معنوي معروف الهوية ومكان الإقامة.
ومن كلامه أيضاً موافقته على عدم وجود إجماع شعبي لبناني حول المقاومة وهذا من شأنه أن يجعل ثلاثية شعب وجيش ومقاومة آيلة للزعزعة، خاصة أن بيانه عن استراتيجيته العسكرية في التعامل مع العدو الصهيوني لم يكن يشير إلى أي تنسيق مع الجيش، ليخلص إلى الإعلان عن أن المقاومة مسؤولة عن حماية لبنان، معززاً إعلانه هذا بنبذة تاريخية عن تراجع الاعتداءات الاسرائيلية حتى الاضمحلال خلال السنوات التي أثبتت فيها المقاومة الاسلامية جدارتها وفعاليتها، وحسن تسليحها وقوة تكتيكها.
لم أر في خطاب السيد حسن إلا نسقاً متسقاً متماسك المنطق، منسجماً مع الانطلاقة الأولى للحزب، وهي عابرة للحدود والدول، تقدم نفسها فيلقّاً فعَّالاً في منظومة حيوية جيدة التنظيم سريعة الحركة -مرفودة من بحر الشبان المؤمنين، الذين نذروا أنفسهم لدحر اسرائيل ومن ورائها الشيطان الأكبر- هنا يستفحل الخلاف ويبدأ الافتراق، مع وجهات نظر أخرى ترى أنه وعلى وجاهة ذلك المنحى، فإن الخطاب العالي لا تحتمله منصة واهية، ذلك أن اسرائيل لا تحتاج في هذه المرة أن تدمر جسورنا، إذ لم تعد هناك حاجة إليها بعد فقدان البنزين، ولا أن تقصف معامل الكهرباء، إذ قد يولد القصف بعض النور في المعامل المعتمة، بل هي ستكتفي بالاستمتاع من بعيد بمراقبة انهيار الدولة اللبنانية التي كانت في يوم من الأيام نقيضتها والنموذج الحضاري في وجه العنصرية الصهيونية.
لكل ما تقدّم، فإنني أظن أن السيد حسن مستهجن ما تعرض له غبطة الراعي بعد عظته في الديمان لأنه يعلم أن تلك العظة تعبر عن كثير من اللبنانيين المختلفين معه، كما أن إقراره بوجود ذلك الاختلاف ليس دعوة لسحق الرأي المخالف، بل ربما كانت في طياته إشارات إلى ضرورة العودة إلى مناقشة الاستراتيجته الدفاعية، وإعلان بعبدا، الذي بعد أن بللناه وشربنا ماءه، وفق النصيحة، أثبت أنّ حروفه عصية على التذويب، وأن زومه لا يروى العطاش إلى المنهل العذب باستعادة الدولة بكامل أوصافها.
سؤال أخير:
هل تُغْني مِنصَّة صواريخ عن منصَّة التاريخ؟!