رضوان مرتضى
عامٌ مر على انفجار مرفأ بيروت، ولم يخرج أيُّ مسؤولٍ رسمي أو قضائي أو أمني ليُخبر المواطنين اللبنانيين بالذي حصل يوم 4 آب المشؤوم. «سرية التحقيق» هي السلاح لتبرير الصمت، مع أنّ المطلوب ليس إفشاء الأسرار بقدر المساعدة على شرح الجانب التقني لما حصل.
لم يُعرف بعد مضمون تقرير لجنة التحقيق التي قال المجلس الأعلى للدفاع الأعلى إنّه سيرفع نتيجة عملها إلى مجلس الوزراء خلال خمسة أيام بعد إعلان بيروت مدينة منكوبة بعد انفجار 4 آب 2020. لكن أكثر من 370 يوماً مرت، ولم يُعلم أحد اللبنانيين بحقيقة أسباب التفجير الذي نكب عاصمتهم وقتل أهلها.
عين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً، لكن يده كفت بعد عدة أشهر، وعين مكانه القاضي طارق بيطار الذي يلتزم الصمت أيضاً. كأنه قابض على أهم أسرار الدولة. بينما يعرف هو، كما الآخرين، بان اطلاع أهالي الضحايا والمتضررين وبقية الناس هو واجب في عُنق القاضي والمسؤول.
صمت القضاء الذي يُقيِّد القاضي قانوناً، أفسح المجال أمام تسريبات إعلامية، لا يمكن الوثوق بكل ما يرد فيها. لكن هذه المعلومات هي التي يستخدمها الناس في متابعتهم للملف، بل يبنون على أساسها مواقف، وتحصل على خلفيتها أحداث وتتعزز الانقسامات. ويتوسع الظلم الذي يفترض بأنه منعه هو أساس عمل القضاء.
يُستغلُّ انفجار مرفأ بيروت لإحداث فتنة عبر توجيه الاتهام السياسي إلى حزب الله. وهو اتهام تُستحضر أدواته في الخطابات الشعبوية لقيادات سياسية وفي فبركة شهود زورٍ جُدد. ها هي البلاد أمام تكرار لمسرحية شهدتها بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005، يوم حج عشرات الشهود الزور إلى قريطم قبل أن يحالوا من هناك إلى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي لإخضاعهم لفحص الكذب. لا أحد من هؤلاء يُريد الحقيقة التي يُفترض أن يملك الصورة الأكبر منها المحقق العدلي طارق البيطار، لكنه لم يتكلّم بعد.
وفي الذكرى السنوية الأولى، فُتحت المنابر للمطالبة بتحقيقٍ دولي في انفجار مرفأ بيروت على اعتبار أنّ الثقة مفقودة بالقضاء اللبناني، مع أنّ التجربة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم تكن مشجّعة أبداً. فالمحكمة الدولية التي استنزفت لبنان سياسياً وأمنياً وإنسانياً ومادياً وأخلاقياً خلال 15 سنة، لم تضف جديداً نوعياً على ما كانت فرق التحقيق في لبنان قد أنجزته خلال أسابيع وشهور قليلة. حتى أنّ انفجار تولوز الفرنسية الذي تسببت فيه نيترات الأمونيوم في عام 2001، تطلّب التحقيق فيه أكثر من عشر سنوات ليتوصل إلى أنّه وقع بالصدفة جراء شعلة سيجارة. فلماذا يستبق معظم الأطراف التحقيق ويُسارعون إلى الاتهام بدلاً من إفساح المجال أمام المحقق العدلي ليعمل بهدوء؟
في انفجار مرفأ بيروت، حقق خبراء فرنسيون وبريطانيون وأميركيون، جمعوا خلال شهور الأدلة لتقديم تقرير تقني مفصّل. وأجمع هؤلاء، مع اختلافات بسيطة، على مسلّمة واحدة تقول: لم يتسبب صاروخ أو عبوة ناسفة بالانفجار. لم يكن هناك أي مواد أخرى غير تلك التي كانت مخزّنة في العنبر رقم 12. وهذا استنتاج علمي موثق ينسف كل ما يشاع ويفبرك عن وجود مخزن سلاح لحزب الله في المرفأ. علماً أن الحزب لم يخف يوماً أنّه يستقدم سلاحه براً من سوريا ولعلّ الغارات الإسرائيلية التي تستهدفه من حين لآخر أفضل شاهد. أضف إلى ذلك، وجود مكتب للقوة العسكرية المشتركة وقوات اليونيفيل في مرفأ بيروت، وهو يعمل على التدقيق في كل شيء، بحيث يصبح من غير المنطقي أن يعمد تنظيم عسكري محترف إلى تخزين صواريخه في مكان مكشوف أمنياً أمام أجهزة عدة. كما أنّ المدير العام للجمارك، بدري ضاهر، أبلغ المحقق العدلي السابق القاضي فادي صوّان أن قوة من اليونيفيل أجرت مسحاً أمنياً لسفينة روسوس، التي كانت تحمل شحنة نيترات الأمونيوم، عام 2013، وأخضعتها للتفتيش لدى دخولها المياه الإقليمية اللبنانية. وهذا مُدوّن في متن إفادة مدير عام الجمارك الموقوف.
خلُصت التقارير الأجنبية التي تقاطعت مع تقرير الأدلة الجنائية اللبنانية ومكتب المتفجرات إلى أنّ الحريق الذي اشتعل تسبب في الانفجار الكبير. وهذا يعني أنّ مسؤولية الإهمال قيدٌ معقود في رقاب المسؤولين، الإداريين والسياسيين، الذين تعاقبوا على إدارة المرفأ منذ عام 2013. يُضاف إليهم، المسؤولون الأمنيون في الجيش الذي يُحمّلهم قانون الأسلحة والذخائر المسؤولية الحصرية للتعامل مع النيترات. فالمسؤولية في الدرجة الأولى عسكرية، إذ إنّ استهتار قيادة الجيش تسبب بإفراغ النيترات وتخزينها الخاطئ. تأتي بعد الجيش مسؤولية القضاة الذين سمحوا بإفراغ مواد تدخل في تصنيع المتفجرات في عنبرٍ غير صالحٍ للتخزين مع مواد أخرى ألّفت مع بعضها البعض قنبلة ضخمة، وتسبب بواحد من أكبر الانفجارات غير النووية في تاريخ البشرية.
تبقى مرحلتان يُفترض أن يكون المحقق العدلي قد حصل على إجابات بشأنهما. الأولى كيف وصلت النيترات إلى لبنان؟ ولماذا أُفرِغت لتُخزّن في المرفأ؟ هل بالصدفة أو كانت هناك نوايا مُبيَّتة؟ وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» من مصادر مطّلعة على التحقيق أنّ المحقق العدلي توصّل إلى إجابات في هذا الشأن. فقد تبيّن أن شركة «سافارو» التي قامت بشراء النيترات حاولت عدة مرّات تخليصها من الحجز، مع أنّ الحجز القضائي كان على السفينة والقضاء عيّن حارساً قضائياً على النيترات. وقد كلّفت مخلّصاً ومحامياً لمتابعة الإجراءات الإدارية والقانونية لإخراج النيترات من المرفأ لاستكمال طريقها إلى موزامبيق، لكنها لم تنجح. عندها عمدت إلى الاستحصال على تقرير فني عن حال النيترات، على اعتبار أنّ الخبراء يقولون بأن هذه المادة، إن لم تكن مخزّنة بشكل صحيح، فإنّ قسماً منها قد يتعرّض للتلف خلال ستة أشهر. ومن بعد يأسها في تحرير النيترات من مرفأ بيروت، كلّفت الشركة أحد الوسطاء بأن يتواصل مع الشركة المصنّعة في جورجيا ليشتري أكثر من عشرة آلاف طن أخرى من نيترات الأمونيوم شُحِنت إلى موزامبيق حيث تستخدمها الشركة في أعمال التفجير في المناجم. وهنا لو كان القصد أن تصل النيترات إلى مرفأ بيروت، لما كانت الشركة كلّفت معقبّاً ومحامياً لإعادة تخليصها لإخراجها من الحجز. وقد يقول قائل بأن ذلك قد يكون تمويهاً. لكن، مع فرض ذلك أيضاً لحبك الجريمة الكاملة، فإنّ ذلك ينتفي بمجرّد قيام الشركة نفسها (سافارو) بشحن أضعاف الكمية من المصدر نفسه (جورجيا) إلى الوجهة نفسها في موزامبيق. وهذه معلومات قد تسهم في رسم صورة أشمل، لكنها تبقى غير كاملة بانتظار كلمة المحقق العدلي.
لكن المحقق يجب أن يقدم إجابة على السؤال الأهم: من أشعل الشرارة الأولى؟
أجوبة عدة واحتمالات أكثر. لكن التقارير التقنية، اللبنانية منها كما الأجنبية، حسمت بالنفي أن يكون الانفجار ناجماً عن صاروخ أو عبوة ناسفة. ما يحصر الاحتمالات بثلاثة:
الأول أن يكون عميل ما قد علِم بوجود النيترات وأشعل النار ليحصل دمار كبير يفوق نتائج حرب إسرائيلية. وهذا الاحتمال لا يزال قائماً.
الثاني، أن يكون هناك من كان يسرق من هذا العنبر، وعندما عرف أنّ القضاء أعطى الإشارة بسد فجواته وإصلاح أبوابه، مع ما يلي ذلك من إجراء إحصاء لموجوداته، الأمر الذي سيعني افتضاح السرقة وفتح تحقيق، قرر أن يُخفي فعلته باستغلال وجود الحدادين بأن يشعل النار من دون أن يكون على علم بحجم الانفجار الذي سيتسبب به.
أصحاب هذه الفرضية يتّهمون حزب الله أو النظام السوري بالضلوع في سرقة النيترات، علماً أنّ معظم التحقيقات التي أجرتها استخبارات الجيش والأمن العام وفرع المعلومات، مع جهاديين من القاعدة بشأن مصادر النيترات كانت تُبيّن أنهم يشترونها من سوريا على اعتبار أن هذه المادة متوافرة بكميات كبيرة وسعرها زهيد لوجود مساحات زراعية شاسعة، ثم يعمدون إلى تركيز نسبة الآزوت فيها. وقد تعزز الحديث عن فرضية السرقة بعد تسريب مضمون تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI) الذي تحدث عن انفجار 500 طن من النيترات في مرفأ بيروت يوم 4 آب 2020، من أصل 2700 طن قيل إنها أفرِغت من الباخرة روسوس في العنبر رقم 12. وسارع كُثر إلى تبني حصول سرقة من النيترات، مع أنّ التقرير نفسه تضمّن احتمال أن يكون القسم الذي لم ينفجر، كان تالفاً أو قد تطاير إلى عرض البحر جراء الانفجار من دون أن ينفجر ككتلة واحدة. فبحسب خبراء المتفجرات، فإن ضمان تفجير 2700 طن من أي مادة متفجرة يحتاج إلى إقامة شبكة هائلة من «الفتائل المتفجرة»، يصل طولها إلى آلاف الأمتار، تكون متصلة بآلاف الصواعق، على أن يجري إعدادها بعد دراسة علمية دقيقة، لضمان تفجير كامل الكمية وعدم «ضياع» جزء منها من دون أن تنفجر. ولهذا السبب، يجزم خبراء متفجرات أنه يكاد يكون مستحيلاً انفجار كامل كمية النيترات نتيجة الحريق، مرجحين انفجار جزء منها وتطاير الجزء الآخر. إضافة إلى ذلك، فإن بقاء كمية النيترات في المرفأ، من دون مراعاة شروط التخزين، يُفقدها مع مرور الزمن (6 سنوات) جزءاً من قدرتها التفجيرية.
أما الاحتمال الثالث فهو المتعلق بأعمال التلحيم التي قام بها الحدّادون. وقد كان المحقق العدلي يجهّز لإجراء محاكاة للانفجار بإعادة خلق ظروف مشابهة للتي كانت قائمة في العنبر رقم 12 لإجراء عملية تلحيم لمعرفة إن كانت ستشتعل النار، ولم يُعرف لماذا تأخّر المحقق العدلي فيها مع أنّه كان يُفترض أن تحصل منذ بداية التحقيق. وقد يسخر البعض من صدق هذه الفرضية على اعتبار أنها غير ممكنة وتُستخدم للتعمية على الحقيقة، إلا أنّ نكتة أن يترك المسؤولون العسكريون والأمنيون والمدراء العامون عبوة ضخمة في قلب بيروت لسبع سنوات من دون أن يتحركوا لإزالتها قد تكون أكثر خيالاً وغير قابلة للتصديق أصلاً لولا أنها حصلت في لبنان فعلاً.
عامٌ مرّ على بدء التحقيق في أحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم. وهو الانفجار الذي هزّ لبنان ونَكَب عاصمته ودمّر مرفأه. ألم يئن الأوان أن يُفرِج المحقق العدلي عن رواية النيترات؟ وإلى متى سيطول انتظار القرار الظني الذي يُفترض أن يسرد الوقائع كاملة؟ عائلات الضحايا وقسمٌ كبير من اللبنانيين يُعوِّلون على نزاهة القاضي طارق بيطار، لكنّ هناك تساؤلات واجبه الإجابة عنها. وهناك هواجس من شأنه أن يُبدِّدها لكونها خلقت لدى قسم من اللبنانيين شكّاً في حياديته ودفعت لاتهامه بالاستنسابية مع أنّ تاريخه ناصع. وهذا ما لم يفعله البيطار بعد.
يقول قانونيون إنّ العدالة كسلحفاة بطيئة قد تتأخر في الوصول، لكنها ستصل حتماً في النهاية، بينما يرى آخرون أنّ العدالة المتأخرة عدالة منقوصة لكون تأخرها يتسبب في تشويه سمعة المتهم ويُسيء إليه قبل ظهور براءته. وعندها، حتى مع براءته سيكون حكم الرأي العام وصمة ستلاحقه ولن يقتنع كُثُر بالبراءة المتأخرة.