رضا صوايا
تنتهي في 22 تشرين المُقبل مهلة تمديد عقود الإيجار في الأبنية المتضرّرة من انفجار الرابع من آب التي نصّ عليها قانون «حماية المناطق المتضرّرة نتيجة الانفجار في مرفأ بيروت ودعم إعادة إعمارها» (القانون 194/2020). هو واقع أشبه باقتراب «إستحقاق» التهجير بالنسبة لمئات السكان المُستأجرين في المناطق التي طالها دمار الانفجار، ممن تمكّنوا من الصمود في منازلهم - على دمارها - بسبب «تربّص» المالكين بهم. هؤلاء، وفي ظلّ غياب أيّ خطة شاملة تأخذ في الاعتبار الحقّ في السكن المُيسّر، ينتظر كثيرون، بفارغ الصبر، انقضاء المهلة القانونية من أجل الاستثمار في إعادة الإعمار. علماً أن إجراء تمديد المُهل هو الإجراء «اليتيم» الذي اتّخذته السلطة بذريعة حماية السكان والحفاظ على حقّهم في السكن، فيما القانون نفسه يُناقض عنوانه. إذ لا يوفّر أي حماية جدّية وفعّالة للمناطق المتضرّرة وسكانها، بل يُشجّع على تهجيرهم وإخلائهم. والحديث هنا لا يقتصر على المُستأجرين ممن ستنقضي مدد تمديد إيجاراتهم، بل تشمل القاطنين السابقين ممن اضطروا إلى «الهجرة» إلى مساكن بديلة إلى حين انتهاء إعادة الإعمار. كيف؟
يفتقد القانون، وفق خلاصة مُشتركة توصّل إليها كلّ من «إستديو أشغال» و«المُفكرة القانونية»، إلى أيّ سياسة أو رؤية لإعادة إعمار المناطق المتضرّرة. وهو إذ لم يتضمن أيّ تحفيز للتعافي الاقتصادي والاجتماعي أو أي خطة لإنعاش الحيز العام، «لم يساهم أيضاً في تمكين السكان من ترميم أبنيتهم المتضررة بشكل سريع أو إيضاح مسار تسديد التعويضات، أو منح الأولويات لضمان السكن الميّسر أو إرساء سياسات تحدّ من المضاربات في المدينة برمتها».
تشير التقديرات الرسميّة إلى أن انفجار المرفأ أدى إلى تشريد 300 ألف شخص ودمّر نحو 200 ألف وحدة سكنيّة. وكان من البديهي أن تكون الأولوية لضمان حق السكان في المناطق والمباني المتضررة بمسكن بديل إلى حين إعادة بناء منازلهم. لكن القانون اكتفى فقط بتمديد جميع عقود الإيجار لمدة سنة في الأبنية المتضررة، حتى 22 تشرين الأول المقبل، ما يشكل خطراً جدياً نظراً إلى المدة الطويلة التي ستستغرقها عمليات الترميم والإعمار في ظلّ التلكؤ الحاصل، إضافة إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعيّة وارتداداتها على الإيجارات. اللافت هو ما تُشير إليه تقديرات منظمة CARE غير الحكومية لجهة أن إعادة الإعمار طال أقلّ من 30% من المساحات المتضرّرة، ما يعني أن نحو 70% من الدمار الذي خلّفه الانفجار لا يزال قائماً. والمُفارقة الكبرى أنه بعد مرور عام على الكارثة، لم تُصدر الدولة حتى اللحظة أيّ خطة شاملة لإعادة إعمار المناطق المتضررة تضمن إعادة تنشيط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة فيها وتأخذ في الاعتبار ضرورة توفير الحماية الفعليّة للسكان المنكوبين بما يسرّع عودتهم إلى منازلهم. «الانجاز» اليتيم تمثّل بإصدار قانون يتضمن ثغرات عدة ساهمت في تعميق نزيف المنطقة وسكانها.
وتكمن الطامة الكبرى، وفق اختصاصيين، بأن من تشرّدوا واضطرّوا إلى الانتقال إلى مساكن بديلة في مناطق أخرى باتوا يتحملون كلفة الإيجارات من جيبهم الخاص، «إذ إن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية لم تدفع إلا إيجار ثلاثة أشهر فقط» على ما ينقل كثيرون ممن هُجّروا. وتزداد المخاوف من أن يساهم التلكؤ في إعادة الإعمار في «تسهيل بقاء من تهجّر من السكان في المناطق التي انتقلوا إليها والحدّ من رغبتهم بالعودة بعد أن يكونوا قد تأقلموا مع حياتهم الجديدة»، على ما تقول المهندسة المعمارية والباحثة في استديو «أشغال عامة» كريستينا أبو روفايل، مُشيرةً إلى أنه حتى ما تم إعماره وترميمه لم يخضع لأيّ خطة واضحة بل تُرك لأهواء وحسابات المنظمات غير الحكومية والجمعيات، إضافة إلى أن «العديد من الوحدات السكنية رُمّمت استناداً إلى زبائنية ومحسوبيات سياسية وطائفية»، وهو ما يساهم في تهجير السكان غير المستزلمين لأحزاب وسياسيين.
الجدير ذكره أنه في حالات عدّة، أُعطي الحق الحصري للمالك دون سواه في تقديم طلب الترخيص للمباني التي تعاني من أضرار إنشائية، «الأمر الذي يضع المالك في موقع السيطرة على مصير ترميم المبنى أو عدم ترميمه (...) ما يجعله قادراً على التلكؤ عن الترميم خلال مدة سنتين التي يُمنع خلالها التصرف بالعقار إلى حين يصبح بيعه ممكناً» على ما يوضح «استديو أشغال عامة».
يتحدث سكان المنطقة عن انفجار لا يزالون يعيشون ارتداداته في كل لحظة. «مخطئ من يظن أننا نجونا من الكارثة. في كل يوم نموت ألف مرة. الذكريات تؤلم والحقيقة التي نعيشها أكثر إيلاماً. وكأن هنالك من يرغب بتدفيعنا ثمن النجاة ودفعنا إلى حافة اليأس والاستسلام كلياً»، يقول أحدهم. مخاوف السكان تعزّزها المشاهدات على الأرض حيث لا حياة ولا إعمار يُذكر. أما إزالة الركام فلم تسهم إلّا في تسهيل التنقّل في المجهول وفي أحياء لا دماء تجري في عروقها.
وإذا ما كان غياب الدولة «بديهياً» و«مُتوقّعاً»، فثمة تساؤلات تُطرح حول جهود الجمعيات غير الحكومية التي انبرت لإنقاذ المتضرّرين. عمل هذه الجمعيات، وفق أبو روفايل، عزّز من الفوضى القائمة «إذ أنّ لكلّ منها سياسات وأهدافاً تختلف عن الأخرى ما نتج عنه عدم تلبية الحاجات الأساسية والضرورية للسكان في كثير من الحالات وبالتالي صعّب من عمليات الترميم». وتُضيف: «بعض الجمعيات كانت تتولّى مهام محددة فقط كترميم الأبواب، فيما أخرى كانت تهتمّ فقط بتأمين الزجاج أو بعمليات الدهان، وفي غياب التنسيق في ما بينها كان الضحية هم السكان»، مُشيرةً إلى أن عمل بعض الجمعيات لم يكن بالجودة المطلوبة وبعض أعمال الترميم تداعت بعد فترة.
يقول شربل أحد سكان الجميزة إن «عمل الجمعيات كان في الجزء الأكبر منه إعلامياً وتسويقياً»، فيما تُشير مارلن نصر، من سكان مار مخايل ومن مؤسّسي «جمعية السكان المتضررين من انفجار المرفأ» إلى أن «الجمعيات ركزت على الخارج وهيكل المباني والزجاج فيما الأضرار في الداخل كبيرة جداً من بلاط ومفروشات ومطابخ وغيرها. كثيرون رمموا وصلحوا من كيسهم ومن التحويلات التي كانت تصلهم من أقاربهم في الاغتراب».
114 بلاغاً بالإخلاء خلال سبعة أشهر!
وثّق «مرصد السكن»، بين 3 أيلول 2020 و31 نيسان الماضي، 275 بلاغاً بالإخلاء، 41.5% منها أتت من المناطق المتضررة (114 بلاغاً). وتوزعت البلاغات على الشكل التالي: 57% تهديد مباشر، 32% تهديد غير مباشر، فيما بلغت نسبة الإخلاءات 11% من مجموع البلاغات. وفي التفاصيل، يشير المرصد إلى أنّ 50% من الإخلاءات تمّت بسبب الأضرار وعراقيل الترميم، أما التهديدات المباشرة بالإخلاء فنتج 68% منها عن نفقات إيجار غير مدفوعة و2% عن احتمالات الاستثمار، فيما توزعت التهديدات غير المباشرة بالإخلاء بين 54% نتيجة عبء نفقات الإيجار و38% ناجمة عن احتمالات الاستثمار وعراقيل الترميم. ولفت المرصد إلى أن عدداً كبيراً من الإخلاءات طال مستأجرين جدداً، غير لبنانيين، من سوريين وعمال أجانب. وهؤلاء يشكّلون نسبة كبيرة من سكان المناطق المتضررة. وتُظهر دراسة أعدّها المجلس النرويجي للاجئين، أجريت على عدد من الوحدات السكنية في أحياء مار مخايل والكرنتينا بين آب وأيلول 2020 أنّ نسبة السوريين بلغت39.17% من عدد السكان في العيّنة فيما بلغت نسبة السكان من جنسيات مختلفة حوالى 11.37%.