خالد أبو شقرا
لا يختلف اثنان على أن زيادة الدولة لإيراداتها من خلال الضرائب على الأفراد والمؤسسات هو حق سيادي. لا وجود لدولة من دون جباية تموّل النفقات التشغيلية والإستثمارية وتكون أداة للسياسة الإقتصادية. إلا أن أخطر ما يواجه هذا الحق في الدول المتخلّفة، ومنها لبنان، هو استعماله للباطل. فيتحول وسيلة تثقل كاهل الأفراد والقطاعات المنتجة، وتصب في مصلحة السارقين.
منذ العام 2012 ولغاية 2020 استورد لبنان بحسب إحصاءات "الدولية للمعلومات" 15 مليون طن فيول للكهرباء بقيمة 7.5 مليارات دولار. في المقابل بلغ حجم استيراد المازوت في الفترة نفسها، الذي يستخدم الجزء الأكبر منه لتأمين الكهرباء بدلاً عن الدولة، 33 مليون طن، بقيمة وصلت إلى 21 مليار دولار. هذا المثال المحصور بسلعة استراتيجية واحدة، يُظهر أن نفقات الدولة على الفيول بشكل مباشر، وعلى مازوت المولدات بشكل غير مباشر تؤمن من الناحية النظرية من إيراداتها. أمّا من الناحية الفعلية فتؤمن من مصرف لبنان، وفي الحالتين من المكلفين والمودعين، سواء كانوا أفراداً أو شركات، وبحسب تغريدة المستشار السابق لرئيس الجمهورية جان عزيز، فإن "مافيا المحروقات شافطة 6 مليارات دولار علناً، وبشهادة مسؤول حكومي. ولتضمن شفطها، نكبتنا بـ 40 ملياراً كدين، وبتصديق حكومات 16 سنة". وعلى هذا الأساس ذهبت الضرائب التي سددها المكلفون والمودعون إلى غير الدولة. فكيف يحق للأخيرة المطالبة بزيادة الضرائب، بالقرار 893/2020 والإعلام 455/2021 إذا كانت تعلم أنها لا تصب في مصلحة الخدمة العامة؟
تخفيض الضرائب لا رفعها
الخبير الإقتصادي ورئيس "المعهد اللبناني لدراسات السوق" د. باتريك مارديني يعتبر أن "احتساب الربح بحسب سعر صرف السوق، فيما العمليات بين التجار تحتسب على أساس سعر 1500 ليرة، سيُظهر أن الشركات تحقق أرباحاً خيالية خلافاً للواقع، وستكون الضريبة عليها مرتفعة جداً". من هنا فان "المشكلة الآنية التي ستزيد من معاناة الشركات والأفراد وترهقهم، سببها تعدد أسعار الصرف"، بحسب مارديني. "أما المشكلة البنيوية في الإقتصاد فتتمثل في ارتفاع نسبة الضرائب وضرورة تخفيضها وليس زيادتها". والحل لهاتين الإشكاليتين من وجهة نظره يكون بـ"إقرار الدولة بسعر صرف السوق، والتخلي عن سعر 1500 ليرة الوهمي، والانتقال في المرحلة الثانية إلى الإصلاح الضريبي باتجاه تخفيض الضرائب من أجل تحفيز الشركات على البقاء. فالشركات تقفل الواحدة تلو الأخرى وتسرّح موظفيها. وخروجها من السوق لا يشكل خسارة للاقتصاد والإستثمار وفرص التوظيف فحسب، إنما لإيردات الدولة التي ستتراجع بشكل متوازٍ مع اقفال المؤسسات وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل. من هنا يرى مارديني أن "مراجعة النظام الضريبي وتخفيض نسب الضرائب وتوجيهها بشكل عادل، هو المطلوب للمحافظة على ما تبقى من شركات وايرادات للدولة. وهذا بالطبع لن يتحقق بزيادة الضرائب بشكل مباشر أو غير مباشر مع الإبقاء على تعدد أسعار الصرف".
توحيد أسعار الصرف
الإنتقال رسمياً إلى سعر الصرف العائم، والتخلي عن السعر الرسمي هو حل محاسبي وقانوني منطقي للعمليات التجارية بشكل عام، وللنظام الضريبي بشكل خاص. إنما في المقابل يثير مثل هذا التدبير الخشية من زيادة الأعباء المالية على الأفراد والمؤسسات. إذ لن تعود هناك خدمات مثل (الانترنت والكهرباء والضرائب والرسوم والقروض والايجارات...) مسعّرة على أساس 1500 ليرة للدولار كما هي اليوم، وستسعّر هذه الخدمات مثلها مثل بقية السلع والخدمات الأخرى بسعر صرف السوق. الامر الذي يرفع كلفتها بشكل كبير جداً ويحرم المواطنين منها، خصوصاً إن لم تترافق مع إصلاحات في الرواتب والأجور. إلا أنه في المقابل يرى مارديني أن كل الخدمات التي ما زالت تقدم على أساس 1500 ليرة مهددة بالإنقطاع وستفقد كلياً في يوم ليس ببعيد. حيث من المستحيل على المؤسسات الصرف على أساس سعر السوق وتقاضي بدل خدماتها على أساس 1500 ليرة. وعليه هناك خياران إما وضع الخدمات على أساس 1500 ليرة وهمي، وفقدانها أو تحولها إلى سوق سوداء بقيمة أعلى من القيمة الحقيقة لها، وإما اعتماد سعر السوق وفسح المجال أمام استمرارية الشركات. وعن ضرورة تعديل الرواتب والأجور قبل الدخول في مثل هذا الخيار وتحديداً لموظفي القطاع العام، يعتبر مارديني أن "زيادة الرواتب مرتبطة بانتاجية الموظفين وبالفائض المحقق في الموازنة العامة. فاذا كانت الدولة تعاني من عجز في الموازنة العامة فلن تستطيع زيادة الرواتب. وهذا ما يأخذنا مباشرة إلى ضرورة ترشيق القطاع العام واستئصال فائض الموظفين غير المنتجين والذين دخلوا بالآلاف بالواسطة والمحسوبيات والتنفيعات الانتخابية ومن بعدها يصبح خيار تعديل الرواتب أمراً منطقياً ومقبولاً.
تسكير مزاريب الهدر
لم يكن حل مشكلة عجز الدولة في الماضي القريب بزيادة الضرائب، ولن يكون اليوم، أو الذي بعده على الأكيد. فـ"في كل مرة كانت تزداد فيها الضرائب، كانت ايرادات الدولة تتراجع. وهذا ما ظهر جلياً في موازنات العامين 2017 و2018"، يقول مارديني، "فأعداد الشركات كانت تتناقص والتهرب الضريبي يرتفع. إذ انه عندما يكون النظام الضريبي مجحفاً ويشمل العديد من الإستثناءات، يرتفع معدل التهرب الضريبي ويتعزز الهروب من النظام بشتى الوسائل". وبرأيه فان "الحل لهذ المعضلة يكمن في تخفيض الضرائب وتوحيدها على غرار ما فعلت دول الاتحاد السوفياتي والبلطيق سابقاً... وغيرها الكثير من الدول التي كانت تعاني من فساد ومعدلات تهرب ضريبي مرتفع. حيث لجأت إلى ما يعرف بـ flat tax أو الضريبة الثابتة. فألغت كل الضرائب وطبقت ضريبة موحدة بنسبة منخفضة. فحثّت بذلك على الإلتزام الضريبي وقضت على التهرّب.
مخالفات بالجملة
المشكلة بطريقة زيادة الضرائب بشكل غير مباشر في القرار 893/2020 والإعلام رقم 455/2021 تتلخص بحسب "جمعية مدراء مؤهلون لمكافحة الفساد" بالتالي:
- قرارات عشوائية غير منسقة مع المؤسسات العامة الأخرى كصندوق الضمان الاجتماعي وغيره من مؤسسات تحصّل الرسوم من المواطنين والشركات.
- تشريع ما يسمى بسعر السوق السوداء، وبذلك تناقض تعاميم مصرف لبنان وقرارات أخرى تخصها.
- عدم اعتماد معايير المحاسبة الدولية خلافاً لقانون تنظيم المهنة، وتعريض النقابة للعقوبات مع اتحاد المحاسبين العرب.
- اتخاذ القرارات خلافاً للقانون وبعيداً من التنسيق مع مجلس نقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان وفق القانون وقرارات سابقة في وزارة المالية.
- عدم تحديد الادلة التي سيعتمدها مدقق الحسابات للتأكد من صحة التسجيل.
- تسهيل أمر تبييض الأموال والتهريب وعدم تسجيل العمليات لا سيما الدعم وفق الأصول.
- عدم تطبيق قانون النقد والتسليف لا سيما المواد 41 و42 و43 و29 لجهة تحديد اللجنة المعنية باستقرار سعر الليرة اللبنانية ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان والمادة 70 من قانون النقد والتسليف.
لا تقيّم وزارة المالية تأثير القرار الاقتصادي على الشركات وعلى التوظيف وفرص العمل. ولا تنسق مع وزارة الإقتصاد ولا مع الحكومة، ولن تتمكن من زيادة التحصيل بل ستنجح بتقليص حجم الاقتصاد اكثر فأكثر.
التهرب والتهريب في لبنان يشكلان العائق الأول أمام تعزيز إيرادات الدولة. ومن دون المعالجة الجدية لهاتين المعضلتين فان استنزاف المواطنين بالضرائب والرسوم سيستمر لمصلحة المهربين والفاسدين.