محمد وهبة
إذا تمكّنت قوى السلطة من تأليفها، فإن حكومة نجيب ميقاتي لن تقوم بأكثر من شراء الوقت. لا يُتوقع من حكومة كهذه أي خطوة في اتجاه إقالة حاكم مصرف لبنان وتعديل مسار الانهيار، بل ستراوح بين خيارات محدودة دفعت الرئيس المكلّف إلى رسم أهداف بائسة لحالة مستعصية: تأمين الكهرباء، المحروقات، الدواء، والرغيف
في حال تمكن رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي من تأليف حكومة تنال ثقة ممثلي قوى السلطة في مجلس النواب، فإنها لن تكون أكثر من واجهة لشراء الوقت. الأولويات التي تحدّث عنها ميقاتي في نهاية استشارات تكليفه كافية لهذا الاستنتاج: «لعل وعسى أن نستعيد دور الدولة الغائبة منذ فترة طويلة، ووجود الدولة هو لطمأنة المواطن لكي يشعر بوجود مسؤول يرعاه ويسأل عنه، بخاصة في هذه الظروف الصعبة التي تحولت فيها الحقوق البديهية أولوية مطالب المواطن، وهي العيش الكريم والحصول على الكهرباء والمحروقات والدواء ورغيف الخبز، وهذا ما نسعى لتأمينه بإذن الله إذا تشكلت الحكومة».
إذاً، تأمين الكهرباء، المحروقات، الدواء، ورغيف الخبز، هي المهمة التي رسمها ميقاتي لحكومته. كيف؟ وبأي كلفة؟ في الواقع، لن يكون هناك أي نقاش فعلي في أي نظام بديل يجب إنتاجه. أي اقتصاد يلائم هذا النظام البديل المفترض. أي منظومة مصالح سياسية واقتصادية سيبنى عليها النظام البديل. أي علاقة مع الخارج. عشرات الأسئلة لن تطرح اليوم، بل سيتم اختزال كل المشكلة بما يجب تأمينه من حقوق. فالطبقة السياسية المهيمنة التي اغتصبت السلطة والحقوق والمدخرات، هي نفسها اليوم ستنضوي في حكومة ميقاتي ضمن المهمة الشعبوية التي أطلقها قبل الانتخابات النيابية المرتقبة مباشرة. إذاً، الهدف واضح: الانتخابات. لكن ما هي الخيارات المتاحة لشراء أصوات الناخبين بمنحهم بعضاً من هذه الحقوق المتعلقة بالكهرباء (أي الفيول لتشغيل المعامل)، المحروقات (البنزين لانتقال الأفراد ونقل البضائع أيضاً، والمازوت لكهرباء لبنان ولمولدات الأحياء، والغاز المنزلي والغاز الصناعي)، الدواء، والخبز؟
- هناك خيار قائم حالياً: الدعم. منذ نحو 22 شهراً يموّل مصرف لبنان، بمخزونه من الدولارات المسمّى احتياطات بالعملات الأجنبية، السلع الأساسية المسعّرة من الدولة اللبنانية: البنزين، المازوت، الغاز، الدواء، المستلزمات الطبية، السلّة الغذائية (لاحقاً ولفترة محدودة). في المقابل، انخفضت قيمة الاحتياطات بالعملات الأجنبية من 29.3 مليار دولار إلى 15.7 مليار دولار في نهاية أيار 2021 (بحسب الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن مصرف لبنان)، أي انخفاض بقيمة 13.6 مليار دولار وبمعدل 618 مليوناً في الشهر.
لكن ليس هذا المبلغ كل ما أنفقه المصرف المركزي على الدعم، إذ تتراكم فواتير غير مسدّدة عليه بقيمة مقدرة بنحو 1.4 مليار دولار، فضلاً عن الإنفاق في شهري حزيران وتموز. وبحسب المعلومات التي تبلغتها الإدارات المعنية وممثلو الأحزاب، فإن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغهم بأن المبالغ التي رصدها لمواصلة الدعم تكفي لغاية نهاية أيلول وقيمتها 400 مليون دولار فقط، وبعد هذا التاريخ سيوقف الدعم نهائياً (المقصود بالدعم ليس أسعار السلع الداخلية المتصلة بسعر الصرف المعتمد بالليرة، بل تمويلها بالدولارات من مصرف لبنان).
بمعزل عن التداعيات الخطيرة اقتصادياً واجتماعياً لمسألة رفع الدعم، فإن هذا الخيار لم يعد متاحاً أمام حكومة ميقاتي إلا في حال تجاوب سلامة وقام مجدداً بخفض سقف الاحتياطات بالدولار إلى ما دون 14 في المئة (كان 15 في المئة سابقاً) لتحرير مبالغ إضافية تستعمل في الدعم، لكن سلامة لم يقم بهذا الأمر سابقاً إلا بهدف تنفيذ التعميم 158 (تسديد 400 دولار من الودائع...) وهو لجأ إلى السوق لشراء الدولارات مع أنه ينكر ذلك من دون تقديم كشف حساب عن العمليات التي تقوم بها المديرية المعنية لديه. لكن لا شكّ بأن النسبة الأكبر من الدعم أعادت تكوين رساميل التجار وموّلت أرباحهم، علماً بأن إلغاء الدعم يعني احتمال انحدار الاقتصاد والمجتمع نحو جولة من التضخّم المفرط تبتلع الأخضر واليابس.
مقابل إلغاء الدعم طرحت قوى السلطة البطاقة التمويلية لنحو 750 ألف أسرة لبنانية بقيمة تصل إلى 130 دولاراً كحدّ أقصى، لكنها لم تتمكن من إيجاد مصادر تمويل للكلفة المتوقعة لهذه البطاقة. وتُطرح أيضاً البطاقة التموينية التي يفترض أن تكون مكمّلة للبطاقة الأولى. الهدف من مثل هذه البطاقات، شراء الوقت وامتصاص الأثر الاجتماعي لرفع الدعم، واستخدامها كأدوات انتخابية في الأشهر المقبلة، ومن دون أن تكون لديها قدرة واسعة على ردع التضخّم المفرط لأن رفع الدعم سيزيد الطلب على الدولار في السوق الحرّة بأكثر من 2.5 مليار دولار. هذا مبلغ كبير سيقوم مستوردو المحروقات والدواء بجمعه من السوق وبيع سلعهم بالدولار أيضاً.
- هناك خيار ثانٍ: أن يواصل مصرف لبنان شراء الدولارات من السوق لتمويل بعض عمليات الدعم المنتقاة. وهذا الأمر سيكون ثمنه تلاعباً في سعر صرف الدولار في السوق الحرّة لا ينشأ عنه سوى مسار ارتفاعي مع تذبذبات هامشية يومية يستفيد منها المضاربون على أشكالهم. عندها ستعود حكومة ميقاتي إلى المربع الأول: سعر الصرف مرتبط بعمليات الدعم التي تحفّز الاستيراد والاستهلاك وبدورهما يحفّزان الطلب على الدولار، وباحتياطات مصرف لبنان وتعاميمه التي تخلق هي أيضاً بيئة محفّزة للطلب على الدولار وطبع العملة رغم شحّ أدوات امتصاصها.
- الخيار الثالث: التسوّل من الخارج. هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً لتأمين نجاح المهمة التي رسمها ميقاتي لحكومته. ففي نهاية أيلول سيتلقى لبنان نحو 860 مليون دولار من صندوق النقد الدولي، وفوقها مبالغ إضافية بقيمة 200 مليون دولار. وهناك وعود خارجية بأن تسدّد بعض الدول ما تعهدت به في «سيدر» لجهة تقديم منح للبنان بقيمة 800 مليون دولار.
خيار التسوّل، يعني شراء الوقت على حساب الخارج، من دون أن نعلم ما هي الحسابات والمصالح والارتباطات التي سيبنى عليها هذا الدفق المالي، إلا أنه في الداخل من الواضح أن هذه الأموال كافية لمزيد من شراء الوقت، وشراء الذمم، و«قطف» ما تيسّر أيضاً، والهروب من المفصل الأساسي للأزمة: الاعتراف بالخسائر وتوزيعها بشكل عادل وهادف، كما يصرّ الوزير السابق شربل نحاس. عادل تعني أن يتم توزيع الخسائر وفق درجة احتمال كل شريحة من الشرائح الاجتماعية، وهادف تعني أن توافق هذه الشرائح على أن تتحمّل هذه الخسائر وتحملها كتضحيات من أجل النهوض مجدداً.
طبعاً كل ذلك يغيب عن بال ميقاتي وحكومته المنتظرة. فهو وهم يدركون أن المسار انحداري، وأن من يملك هذا المسار ويديره هو حاكم مصرف لبنان بحماية أميركية واضحة للعيان. ساذج من يعتقد أنه يمكن تعديل المسار من دون أي تعديلات جوهرية في بنية إدارته وسياقه السياسي وتفاصيله النقدية والمالية. السلطة فوّضت سلامة القيام بذلك، ونجيب ميقاتي هو أحد أركان المنظومة. ما سيُعطى لميقاتي دولياً ومحلياً لتأليف حكومة، لا يتعلق أبداً باستعادة الدولة الممزقّة بانهيار هائل، بل تعبيراً عن رغبة الجميع في شراء الوقت والاستعداد للمعركة المقبلة بعناوينها الإقليمية والدولية والمحلية.
حتى اليوم، خسرنا كامل عام 2019، وكامل عام 2020، وأكثر من نصف عام 2021 ضمن مسار رسمه سلامة باسم السلطة ونيابة عنها أدّى إلى تضخّم في الأسعار يفوق 280 في المئة من ضمنه تضخّم في أسعار الغذاء بنسبة 980 في المئة بحسب أرقام الإحصاء المركزي، كذلك ارتفع سعر صرف الدولار من 1500 ليرة إلى سقف 24 ألف ليرة قبل أن يعود إلى 19500، أي أنه كسر الحواجز النفسية التي تتعلق بالانتقال من رقم إلى آخر ضمن شريحة الـ4 أصفار، وبات الحاجز يتعلق بصفر إضافي، ودلالة هذا الأمر لا تقتصر على العامل النفسي، بل على قوّة هذا المسار القائم على تذويب الخسائر بالتضخّم وتحميلها لحاملي النقد المحلي من أجور ومدخرات. الخسائر في النظام المصرفي (مصرف لبنان والمصارف) تموّل بتحويلها من دولارات إلكترونية إلى ليرات ورقية قيد التداول.
على وقع هذا المسار ستتألف الحكومة، وهي لن تكون عائقاً أمام استكماله، بل على العكس شراء الوقت يعزّز القدرة على إدارة هذا المسار ضمن مدى زمني أطول.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا