درسٌ لبنانيّ في إنتاج عباقرة لمزابل التاريخ
درسٌ لبنانيّ في إنتاج عباقرة لمزابل التاريخ

خاص - Sunday, July 11, 2021 3:52:00 PM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

 

في كل أربعاء من "النهار"، أقرأ سمير عطاالله وأحمد الله على أن الثلاثاء هو موعد مقالتي الشهرية؛ ذلك أنَّ الإبداع الذي يفيض من محبرته يصيب قلمي بالشلل وحبري بالجفاف وشهية الكتابة عندي بالضمور، حتى لَيتملَّكُني أمامه حسد الضعيفِ العاجز. هذا حدث لي يومَ قرأت أنشودة المطر لبدر شاكر السياب، إذ أقلعت عن محاولة الشعر لعقدين من الزمان، إلى أن خفَّ تأثير تلك القصيدة علي، فعاوَدْتُ النظم وَجِلاً كمن يقدِّمُ رِجْلًا ويؤخر أخرى، أو كمن يكتب بيتًا ثم يمحوه. فإن ذوقي الأدبي تفتنه اللمعات وتبهره اللمحات، فإذا قارنت ما لدى سميرٍ بما لدي، نكصت على عَقبي وآثرت سلامة السكوت على مغامرة التعبير.
يوم الثلاثاء الماضي كتبت عن الفدرالية واستشهدت بدور الكنيسة في محو الأمية من لبنان، فكان ذلك سرَّ ازدهاره وانفتاحه، وبعثًا لحيوية الحياة السياسية فيه؛ وأشرت إلى بعض قليل، تفسح له الشاشات مجالات واسعة للترويج لفكرة توزيع الجغرافيا اللبنانية على كانتونات طائفية ملونة بالألوان الفاقعة. ويوم الثلاثاء أيضاً أطلَّ علينا من ال M.T.V أمين عام الفدرالية السيد رياشي، مبشرًا بأن دولة سنيّة على وشك الولادة في كل من عكار والمنية والضنية وطرابلس، وأنّ جيشها أصبح قيد الصف المرصوص... فتخيّلت أنه قرأ مقالي فقرّر أن يردّ علي، ولهذا أجيبه بأن الدولة التي يزعُمُها، ليست إلا جزءًا لا يتجزأ من لبنان، فليبحث لأفكاره عن دليل جغرافي وديمغرافي آخر.
لن أُبَدد وقتكم بإعادة قراءة ما كتبت في مقالتي، بل أكتفي بأن أُنَوِّهَ بأن سمير عطاالله هاتفني من جدّة مٌعلقاً على مقالي، ولكنه ربما تعمّد ألا يلفتني إلى أن الإسهاب والإطناب لم يعودا من لغة العصر، لكي أكتشف ذلك بنفسي في الغداة، حين كتب بإيجاز فني يغني عن الشرح والتفسير: "لا تستطيع أن تصنع جنوب إفريقيا من دون نلسون مانديلا، ولا أن تصنع فرنسا من دون شارل ديغول، لكنك تستطيع أن تصنع هتلر من كل ثلاثة فارغين مستكبرين". كما أنه، بعملية استعراضية بارعة، لقّننا كيف نختار العنوان الذي لا صلةَ ظاهريةً له بالمضمون، لكي نقرأه من بعدُ متخفيًا تحت كل سطر، فَسَمَّى حديث أربعائه "عيش السرايا" واستشهد بكلمة رئيس الجمهورية بتاريخ 17/10/2016 (أي خطاب القسم)، ثم ترك لنا أن نقدح الفكر والحس، لنستنبط من الغموض لذة لا تفضي إلى النشوة والمتعة، بل إلى اللوعة والحسرة، لأن الصهوة السياسية، نفضت فرسانها ثم حرنت وحمحمت، ورفست فستر غبار حوافرها العيون، ثم انجلى المشهد عن حمقى العقولِ وبلداء العواطف وَمَيِّتي الضمير، الذين يشكلون موادَّ خامًا صالحة لإنتاج ألف هتلر وموسولوني وأشباهما من القادة العظام، وبهذا يستطيع العالم أن يأخذ من لبنان درساً في إنتاج عباقرة لمزابل التاريخ، كما تعلّم منا سابقاً كيف تدار الدول من غير موازنات مالية. ولأن الشيء بالشيء يُذكَرُ يهيَّأُ لي أن عنوان “عيش السرايا” الذي اختاره تعني بالفرنسية “Pain Perdu” أي الخبز المفقود، ولكنه ليس نوع الحلويات اللذيذ، بل هو تعبير حقيقي عن الخبز المفقود والدواء المفقود والوقود المفقود، والوطن الذي يكاد يكون مفقوداً، فلعلّ آلة الحكم استطابت قول الحجاج بن يوسف، " لأجعلنَّ لكل امرئٍ منكم في جسده ونفسه شغلا إلى أن ينادي المنادي: أنجُ سعد، فقد هلك سُعَيْد، فراحت تستعيده وتردده وتضيف أُنْجُ فلان، فقد هلك حسان، فنجيبها: "بشفاعة النبي جبران لن يهلك لبنان".

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني